د. حسن بن فهد الهويمل - الجزيرة السعودية لقد كانت هناك أحلام توسعية لدى (الشاه) ولهذا عمد إلى عسكرة نفسه وأصبح يمتلك خامس قوة عسكرية، ولكنه كان عدواً عاقلاً، يزن الأمور، ويراعي المصالح، ويحترم الأحلاف، ويرضى بجنون العظمة، ولم تكن رؤيته (أيديولوجية) ولا (عنصرية) وما كان ثورياً كما كانت الآيات والملالي. وإشكالية (إيران) الراهنة أنها لم تزل حكومة ثورية توسعية، مسكونة بهمِّ التصدير للثورة والطائفية واستبداد العنصر الفارسي، وتلك أدواء تقعد بها دون الصيرورة الحتمية إلى مقتضيات الحكومة المدنية التي تراعي المتطلبات الضرورية للمواطن التواق إلى الأمن بكل أبعاده النفسية والغذائية والصحية، وما يستصحبه ذلك من صناعة واعية للإنسان، بحيث يكون عضواً عاملاً في صناعة الدولة الحضارية، وبحيث لا يكون نشزاً في السياق الإنساني، فالدولة القُطْرِيَّة المنكفئة على نفسها لم يعد لها مكان في ظل الثورات العلمية والانفجارات المعرفية وثورة الاتصالات المذهلة، فالدول اليوم أصبحت كأفراد داخل مصنع مشترك، ولا أحسب رؤية كرؤية الآيات والملالي صالحة للإسهام في إدارة عجلة الإنتاج بمثل هذه المفاهيم والتصورات، وارتهان الدولة للمنازع الثورية التوسعية حال دون ترقيها إلى مستوى الدولة المدنية، ومجازفاتها التي تناهز حد الانتحار متوقعة بين عشية وضحاها، فالدولة الثورية لا تبالي بأي واد هلكت وأهلكت، والفاحص لأوضاعها وأوضاع شعبها المشحون بالتوتر يدرك أنها تعيش حالة من الإفلاس والغوغائية، وكل شعب ليست له مثمنات حسية أو معنوية يظل ربيب الهتافات والمظاهرات، فيما تظل عجلة الإنتاج عنده معطلة، وكل شعب تحكمه الشعارات تتحكم فيه الفوضى وتستشري في ربوعه الاضطرابات، وقد تضطر السلطات المهيمنة إلى التنفيس عن نفسها بتصدير الفوضى تحت أي مسمى، والأزمات الاقتصادية والاجتماعية حين تتجذر ثم لا يكون هناك بارقة أمل يلجأ أهل الحل والعقد إلى افتعال الأزمات السياسية أملاً في الخلوص من شبح الانفجارات المدمرة التي تبدو بوادرها بين الحين والآخر، وهذا ما يسمى بالهروب إلى الأمام وهو عين ما تفعله القيادة المرتبكة في إيران، وافتعال المشاكل والأزمات السياسية محاولة يائسة لإبطاء ساعة الانفجار. والعقلاء الذين يعول عليهم لإقالة العثرة وردم هوة الخلاف بين الأطراف إما أن يكونوا في المنافي أو في غياهب السجون أو تحت الإقامة الجبرية، والممسكون بأزمة الأمور لما ينفكوا من الصهيل والهدير، واستعراض العضلات، وإبداء القوة العسكرية بتدشين صاروخ أو مصنع للسلاح، وتلك شنشنة سمعناها من حكومات عربية ثورية كنا نحسبها الأقدر على إقالة العثرة فإذا بها تكون عالة على الصامتين الذين يقضون حوائجهم بالكتمان، وسيكون مصير هؤلاء كؤلئك، فلقد ألفنا تحول الهدير إلى رغاء والصهيل إلى مواء. وقراءة الصراع بين إيران الآيات والملالي والحوزات من جهة والدول الخليجية والعربية بمعزل عن التاريخ الإسلامي القديم والثوري العربي الحديث قراءة منقوصة، ومن تصور أن بإمكان أي مبادرة سياسية أن تجتث الأحقاد والضغائن فقد أخطأ الطريق، غير أن الخلوص من هذه المنعطفات الخطيرة بأقل الخسائر مطلب إنساني، ذلك أن الجنوح للسلام من مقاصد الفكر السياسي الإسلامي، ومتى أمكن تحييد إيران وكف أذاها بالوسائل السلمية فإن التصعيد اختيار مفضول، ولا يتفق مع سياسة الدول الخليجية عامة ولا مع سياسة المملكة العربية السعودية على وجه الخصوص، وإذ أكَّدْنا على استصحاب المؤثرات الضاربة في عمق التاريخ بين الفرس والعرب فإنه يجب أن نستصحب الخطاب الثوري عربياً كان أو غير عربي، وإيران محكومة بالنَّفس الثوري منذ أن سقطت الامبراطورية الإيرانية. ما أود تقديمه بين يدي حديثي أو تداركه من باب الاحتراس أن العقلاء الناصحين لأمتهم الإسلامية على مختلف أطيافها وطوائفها لا يودون لأي بلد إسلامي وإيران حكومة وشعباً من بينها إلا الخير والأمن والاستقرار والسيادة متى استقاموا على الطريق وجنحوا للسلام وأدركوا أن مرتع الظلم وخيم، وحين نحب لإيران ما نحب لأنفسنا لا نجد بداً من مراقبة الأوضاع وتقويم التعديات على كل المستويات العملية والإعلامية وإنزال الأمور منازلها فقد عيب على الذين لا يقدرون الأمور بحيث يضعون الثقة في غير موضعها، فنحن أمة ذات رسالة وأصحاب مثمنات، ونعيش حالة من الأمن والرخاء والاستقرار، ولدينا تطلعات حضارية ومدنية، وأي تصعيد مع أي طرف سيكون له أثره على مشاريعنا العملاقة وسياستنا الوسطية المحترمة على كل الصعد، ومن ثم سنكون مكرهين حين نضطر للمواجهة، لأن ذلك سيفوت علينا فرصاً كثيرة، فنحن نتطلع إلى الأفضل، ولن نريد لسمعتنا تدنيساً ولا لمنجزاتنا تكسيراً ولا لمسيرتنا تعويقاً، ولن نسمح لأحد أن يعكر صفو حياتنا ولا أن يؤثر على سيادتنا، ولا أن يعمل على إرهابنا وتخويفنا فإما حياة كريمة تسر المحب وإما ممات شريف يسوء العِدَى. وصدق الله: ?قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ? النصر أو الشهادة. وما كنا تحت أي ظرف لنتخلى عن الدفع بالتي هي أحسن، غير أن ما تفعله الحكومة الثورية في إيران وما تتناجى به مجالسها النيابية والتشريعية من الإثم والعدوان لا يبشر بخير ولا يبعث على التفاؤل وما هم عليه عين الإساءة والترصد مع سبق الإصرار، وإيران الحكومة والملالي والمجالس في مجمل خطاباتهم الاستفزازية يحاولون الانتشار وتوسيع مواقع النفوذ ظناً منهم أن أصحاب الشأن عاجزون عن التصدي والصمود وقطع دابر الشر، أو أن دول العالم ذات المصالح والمسْتَهِمة على سفينة الكون لا يأخذون على يد السَّفيه. والدول الخليجية بما هي عليه من سياسة الاعتدال واتقاء الشر بأيسر الحلول وسعيها لحل مشاكلها عبر الدوائر المستديرة لا تود أن تطوقها أفعى الطائفية ولا أن يستشري في جسدها المد الثوري، ولا أن تتنازع عليها الفارسية والتركية، ولا أحسبها تجهل ما تبيته إيران من نوايا سيئة وما تسعى في سبيله جاهدة في لبنان والكويت والبحرين واليمن وجزر القمر وما تود أن تفعله في بقية دول الخليج وما تفعله مراكزها وسفاراتها وعملاؤها في أنحاء العالم، وهو فعل مبيت ومخطط له والدول الخليجية أول ضحايا هذه الاضطرابات المفتعلة، لقد كانت الطائفية مغيبة ولم يكن هناك خلاف بين أبناء الخليج فهم أخلاط في أسواقهم ومدارسهم ومكاتبهم لا يفرق الرائي العابر ولا الراصد المدقق بين أحد منهم، ولا يطرح أحد منهم عبر أي وسيلة ما يوحي بالفرقة ولا العداوة، والسائد فيهم ?قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ? وحين تنفست الأفعى المجوسية، بدأ التفتيش في غياهب التاريخ. صحيح أن الأوضاع الإيرانية والخليجية والعربية تستمد توتراتها من خلفيات تمتد مع الزمن الحديث، فالحروب العراقية الإيرانية التي ناصرت فيها دول الخليج الجانب العراقي ستترك في النفوس شيئاً من الضغائن والأحقاد، والجزر الثلاث الإماراتية التي تحتلها إيران هي الأخرى لن تدع الأمور تجري في أعنتها والمفاعلات النووية التي تخشى دول الجوار تجاوزها لمهماتها السلمية بحيث تشكل تهديداً للدول الخليجية والصراع الطائفي والعرقي البادي للعيان والتدخلات السافرة والخفية التي تمارسها إيران عبر سفاراتها وشبكاتها التجسسية في كثير من البقاع العربية وخروج إيران على القوانين الدولية وساند المنظمات كل ذلك ومثله معه لن يترك الأوضاع على ما تود الأطراف أن تكون عليه، ولكن بإمكان إيران والدول الخليجية أن تتجاوز هذه الاحتقانات لا لمصلحة دول الخليج وحدها ولكن لمصلحة الجميع ومصلحة إيران بالذات، فالأوضاع الإقليمية والعالمية لن تدع إيران تغامر أو تقامر ولا أن تلعب بالنار، ولا سيما أن الخليج العربي والمملكة العربية السعودية تشكل حدقة العين العالمية، ومكانة المملكة عربياً وإسلامياً وعالمياً وثقلها الديني والسياسي وتوازنها في كثير من القضايا تحول دون نفاذ شيء من (أجندة) الحكومة الثورية العنصرية التوسعية الإيرانية، ومع ثقتنا التامة بأن العاقبة للمتقين إلا أن الثمن سيكون باهظاً، وإن يمسنا قرح فقد يمس الآخر أكثر من قرح، وما يوده العقلاء والمجربون حقن الدماء والمصير إلى أيسر الطرق، ومما يخافه المشفقون على مصائر أمتهم القراءات التآمرية للحراك العربي الإيراني وارتهان ذلك كله للصراع الطائفي، ويقيني أن الطائفية مجرد ورقة تستخدم بشكل نهم، وليس من مصلحة الأمة الإسلامية أن يفتح في مشاهدها ملف الطائفية وهي قد عايشته منذ القرون الأولى وكان بإمكانها تجاوزه بالتسامح والتعايش ومتطلبات الأخوة الإسلامية التي تتسع لكل الأطياف وإذ لا يكون بمقدور إيران ومن هم وراءها تحقيق شيء مما يطمحون إليه من توسع وهيمنة وحكم طائفي أو عرقي فإن من الخير التراجع من أول يوم، وليس الخوف من ظفر إيران بما تريد وما تحلم به ولكن من المفاسد التي ستتركها تلك المغامرات الطائشة، وإذا كانت إيران قد عودت شعبها على احتمال الفوضى والقتل والتشريد والمغامرات غير المحسوبة فإن دول الخليج لا تقبل مثل ذلك لشعوبها وإذا كانت إيران لم تتوفر على مجمل البنى التحتية التي تتطلبها المدنيَّة الحديثة فإن دول الخليج تسابق الزمن للحاق بالدول المتقدمة، ولا ترضى بأن يصرفها صارف عن مسارها في توفير العيش الكريم لشعوبها، إن بإمكان دول الخليج أن تجهض الأطماع الفارسية والأحلام الصفوية والروح الثورية والطائفية، ولكنها تعرف جيداً أنها ستدفع ثمناً باهظاً من جهدها ومالها ووقتها الثمين ومن ثم فإنها تحاول الدفع بالتي هي أحسن، وإذ كان بإمكانها إقناع إيران بخطورة المواجهة فإنها ستظل تنفق من الجهد والمال والوقت والوساطات والوجاهات لتفادي الصدام العسكري الذي ستبوء بإثمه إيران وستكون المغامرة الرعناء عليها ندامة وخسارة. ودول الخليج تفضل الحلول السلمية وإن اضطرها ذلك إلى بعض المداراة والمجاملات، وإذا لم يكن بد من ركوب أصعب الضررين فإنها مستعدة لركوبه لأن الحرية والكرامة والسيادة فوق كل اعتبار. إن أمام إيران اليوم أكثر من خيار ولكن يوماً ما سيأتي ثم لا تجد فيه إيران إلا خياراً واحداً ينتهي بها إلى حتفها والدول الكبرى ذات المصالح و(الاستراتيجيات) قد تَعِد وتمني وتنفخ الأوداج ولكنها تنخنس في ساعة العسرة لتجعل بأس الفرقاء بينهم شديد ولتفرغ لقطف ثمار لعبها الكونية. فهل في إيران رجل رشيد يقرأ الأحداث وينذر قومه إذا رجع إليهم لعلَّهم يرشدون؟.