يومٌ منحوس قضيتُهُ الأربعاء الماضي في مدينة جدة؛ فساعة وصولي المدخل الجنوبي عبر طريق الحرمين السريع فوجئتُ بأرتال من السيارات التي تسير ببطء شديد، وبعد مضي قرابة ثلاث ساعات من السير الممل اضطررتُ إلى الخروج عن المسار صاعداً إلى مكان مرتفع نسبياً؛ خوفاً من مفاجآت السيول، وأيضاً لمشاهدة المنظر المؤلم. - مسارات الطريق ممتلئة بالسيارات وبأحجام مختلفة، وحركة السير معطلة تماماً. - الطريق المتجه إلى مكةالمكرمة أصبح مرتعاً للسيارات الذاهبة والآيبة التي اختلطت بشكل مفزع. - الأخبار كانت تصل إلى الموجودين عن طريق إذاعة (هواها خليجي) أو من خلال رسائل الجوال (تهدم سد أم الخير) ، و (ضرر شديد يلحق بسكان الحي ومنازلهم). - إذاعة (هواها خليجي) تحولت إلى منقذ من ورق من خلال استحثاث للاتصال بالإذاعة والإشارة إلى مواقع المتضررين، وأحدهم في أقصى شمال جدة يود إنقاذ شخص محتجز في الكندرة ، لا ادري كيف ينقذه؟ وكيف يتوقع أن يصل للإنقاذ؟ والطرق وقتها مغلقة بالكامل، وما زال أخونا مُصِرّ برسائله الجوالية المتلاحقة. كنت أتوقع من المذيع أن يقول: (اهدأ .. غيرك ما قدر إلا إذا كان عندك طيارة!). المذيعان يُشكَرَان على استبسالهما ولهاثهما في الكلام، إلا أنهما كانا في (حوسة) أشبه ب(حوسة) إطارات السيارات في الوحل ؛ فما يُنشر عليهما جعلهما في وضع صعب. مكثت ما يزيد على ثلاث ساعات، وبعد صلاة المغرب قررت التحرك شمالاً، ويا ليتني لم أتخذ القرار؛ فلو أنني اتجهت إلى أحد الأرصفة ووضعت رأسي لكان أصلح وأنفع مما جرى لي في ذلك اليوم المنحوس، إلا أن أحد الموجودين شجعني لنتحرك سوياً، وما إن اقتربنا من كوبري الجامعة - طبعا خلف أرتال السيارات - حتى قُفلت المسارات؛ ليحددوا مساراً إجبارياً نحو حي الجامعة؛ لتنتشر السيارات في مرابع ذلك الحي، وما أدراك ما حي الجامعة وقت سقوط الأمطار؛ فقد تحول إلى بحيرة من الماء والوحل تطفو عليها السيارات السابحة. من حسن حظي أنني تتبعت سيارات المرور والدوريات؛ فلربما أن الخريطة المائية كانت واضحة لديهم، وبالفعل لم أواجه في بداية الأمر صعوبة تُذكر؛ فالمياه فقط تغمر الرصيف ولا يدري السائق أين الطريق؟ عندها اتخذ سائقو سيارات الدوريات موقعاً خاصاً تاركين لي خيار مصارعة الماء؛ فاضطررت ترك السيارة بعد عناء، وبعد أن جاهدت السيارة وتغصصت بالماء لفظتني على مقربة من سوق تجاري! لا بد أن أترجل لأعبر الماء متجهاً نحو شارع الستين، قريباً من عمائر الإسكان. أدهشتني رؤية النفق؛ حيث كان مليئاً بالماء، وكأنه بحيرة أرادت (الأمانة) أن تضعها في وسط المدينة، إلا أن البحيرة كانت تطفو على سطحها الأخشاب وبراميل مجوفة ومُحْكمة الإغلاق وقاذورات وغيرها.. كان لا بد من البحث عن مكان للمبيت، وبالفعل أخذت جولة مائية دون قارب بحثاً عن مأوى ، ومررتُ بعدد من الفنادق (الحمراء ، الدارالبيضاء ، شقق سما ، وأخرى) ، وكانت الأضواء مطفأة كنوع من التحايل على الراغبين في البحث عن سكن، وبعد استعطاف وبث شكواي قبلني أحدها نزيلاً ؛ فربما أنه خشي عدم وجود نزلاء آخرين؛ لأن الوقت كان بعد منتصف الليل. عموما كانت هناك أسباب لم أتمكن من استقصائها. في الصباح تركت الفندق لأسير في الشارع. التقيتُ سائق تاكسي بنجلاديشي يحاول إصلاح سيارته التي ارتطمت في الرصيف. طلبت منه إيصالي إلى موقع سيارتي؛ فرد بغضب (السيارة كربان .. جدة كربان) ، وأردف (بنجلاديش مطر .. مطر كثير ، ما في مشكلة ، جدة مطر ساعة مشاكل كثييير) . ضحكتُ بمرارة، وانصرفتُ عنه بعد أن آلمني حديثه. اضطررتُ إلى المشي مروراً بجوار النفق المليء بالماء. كان الكثيرون يلتقطون الصور، وكأنهم في نزهة، أو كأنهم بجوار بحيرة جنيف. شاركتهم الخزي، طبعاً خزي سوء التخطيط، وسوء تصريف ماء المطر. عندها لا بد من الفرار والهرب من جدة خصوصاً أن الأرصاد الجوية تتوعد بمرور سحابة سوداء أخرى على المدينة. بالفعل عدت أدراجي متجهاً إلى مكة صعوداً إلى الطائف ثم الجنوب. ارتسمت في ذاكرتي أشياء عجيبة عن المعادلة غير المكافئة بين المطر ومدينة جدة. أولها : الوعود غير الصادقة والتصريحات الرنانة من المسؤولين عن حدوث الكارثة، وها هو المطر قد جاء، والسؤال : ماذا فعلت الأمانة؟ لا شيء .. إلا أن البليد لا يتعظ. ثانيها : الطائرة التي كانت تحوم فوق سماء جدة لا يمكن أن تحل المشكلة ، وإنما في ظني تستطيع رؤية تفاصيل المشكلة لا أقل ولا أكثر! ثالثها : إن علماء النفس يؤكدون أن البكاء علاج مناسب للتخفيف من الحزن والكمد والألم؛ فعلى أهالي جدة اللجوء إلى البكاء. رابعها : قالوا إن السبب في كارثة مطر عيد الأضحى الفائت أن السيول جاءت من خارج جدة، أما الآن فداخل المدينة، بمعنى أن المشكلة قائمة.. قائمة سواء من الداخل أو الخارج! خامسها : أشياء عجيبة ارتسمت في ذهني حتى تنتهي المشكلة وتُجتث من الجذور. وأقترح على المسؤولين اختيار موقع جديد لمدينة جدة، وإحاطة المدينة المنكوبة بسور كسابق عهدها ، ونصب لوحة على إحدى جدرانها شريطة أن تكون لوحة نيون؛ لأن اللوحة القماشية ستغرق كجدة نفسها، ويُكتب في اللوحة "اضطررننا مغادرتها؛ لفشل ذريع ارتكبه المسؤولون عنها في التخطيط، والسبب قلة أمانة الأمانة". لا أدري بعد هاتين الكارثتين المفجعتين المؤلمتين هل تُفكر وزارة الصحة في إنشاء مصحات نفسية لمعالجة الصدمات النفسية؟ خصوصاً للأطفال الأبرياء. أخيراً لا يسعنا إلا أن نقول (يا رب سترك).