قلت لصاحبي بعد أن شرح لي حاله : إنّ من أهم وسائل العلاج لهذا الداء الذي تعاني منه ، أن تقرأ القرآن الكريم قراءة المتأمّل المتدبّر ، وتحمل نفسك على ذلك حملاً ، وتدفعها إليه دَفْعاً ، حريصاً الحرص كله على مواصلة قراءته حتى تكمله ، كما تصنع مع الروايات والقصص التي أخبرتني أنّك تقرأ الكتاب منها قراءة متواصلة في ساعات ، أو أيامٍ بحسب طول الرواية أو القصة. استخدم هذا الأسلوب في قراءة كتاب الله عزّ وجل حتى تختمه ختمة مباركة ، وزِدْ على ذلك الإكثار من ذكر الله ، والاستغفار خلال الفترة التي تقرأ فيها القرآن ، وبعد ذلك نلتقي لنرى كيف أصبحت حالتك النفسية والذهنية. حاول صاحبي أن يتنصّل من تناول هذا الدواء الروحي العظيم محتجاً بعدم ميله تارة ، وبعدم استعداده لذلك تارة أخرى ، وبعدم قدرته على أن تكون حالته من حيث الطهارة مناسبة لتلاوة القرآن تارة ثالثة. قلت له : أنت -كما أخبرتني- شغوف بالقراءة ، مغرم بتنوعها ، فقد قرأت في الأدب شعراً ونثراً ، وفي علم النفس، والاجتماع ، والسياسة ، والفلك والنجوم ، وأخبار المشاهير ، ومذكراتهم الشخصية على اختلاف أنواعهم ، وفي التاريخ وعلومه ، أفلا تجعل حب التنوع في القراءة منفذاً تدخل منه إلى أعظم كتابٍ عرفته البشرية على الإطلاق بشهادة أساطين الفكر والثقافة والأدب والفلسفة في أوروبا وأمريكا التي تعشقها حتى النخاع -حسب قولك-؟؟ وبعد محاصرة رقيقة لصاحبي عاقدني وعاهدني على أن يفعل ما اقترحت عليه ، وكان عهده كما بدا لي صادقاً وثيقاً. ودّعني هو يقول مبتسماً : عادة الأطباء المعروفة أنهم يصفون الدواء بجرعات قليلة موزعة على الأيام (حبة ، أو ملعقة صباحاً ومساء أو مرة في اليوم) وأنت أعطيتني الجرعة كاملة ، فهل هذه مدرسة جديدة في الطب؟ قلت له : لك أن تعدّها كذلك. وبعد أسابيع ، كان اللقاء ، وكانت المفاجأة ، فقد منَّ الله على صاحبي بالشفاء العاجل بصورة ليست غريبة عليّ من خلال التجربة ، ولكنها كانت عنده غريبة أشد الغرابة ، فقد جاءني بوجهٍ غير الوجه الذي جاءني به في اللقاء الماضي ، وبروحٍ غير تلك الروح ، وعقلٍ غير ذلك العقل. قال : لقد لقيت الكنز الذي كنت غافلاً عنه وهو بين يديّ ، كنز القرآن العظيم الذي كنت -وأنا الشاب المسلم- بعيداً عنه البعدَ كلّه تلاوة ، وتدبراً ، وتذوقاً لجماله وجلاله ، ولقيت الراحة النفسية التي لو لم أذقْها لظننت الحديث عنها ضرباً من الخيال ، ولقيت الحب الكبير الذي نَمَتْ شجرته بيني وبين أهلي وأقاربي وصلاتي وعبادتي نمواً سريعاً لم يكن خطر ببالي ، أشهد بالله أنك طبيب ماهر يا دكتور. كان يتحدث وقلبي يتراقص فرحاً ، ولساني يلهج بحمد الله وشكره ، قلت له بعد صَمتٍ مشحونٍ بالراحة والهدوء : أرأيت أن كلّ إنسانٍ مسلم يمكن أن يكون طبيباً نفسياً ماهراً ينفع نفسه وغيره من الناس. بقي أن أخبركم عن المرض الذي كان صاحبي يعاني منه ، إنه مرض الغفلة عن دينه وعبادته وذكر الله عز وجل ، كان هذا المرض قد انتشر في زوايا نفسه بصورة مخيفة ، حتى جعله في حالةٍ من النكد وضيق الصدر ، وسوء التعامل مع الناس ، وفقدان الأمل المشرق في الحياة ، والميل إلى رفقة السوء ، وجلسات السهر الطويل على القنوات ، وعلى سموم ما يُسمّى خطأ (بالمعسّل) والجنوح إلى قراءة الروايات والقصص الهابطة ، وبعض الكتب المنحرفة فكراً ومعتقداً. نعم كان مرضاً خطيراً فاتكاً كاد يقضي على حياة الرجل ، وصفائه ، وسعادته قضاء مبرماً. ثم كان الدواء الذي منَّ الله عليّ بأن أكون واصفه له كما شرحتُ سابقاً ، كما منّ الله عليه أن يقتنع بأخذه في جرعته المكثّفة ، التي أشرت إليها. والله إنه -أيها الأحبة- لأهم علاج وأنجعه وأقواه لمثل هذه الأمراض المنتشرة بين كثير من ذكور شبابنا وإناثهم، والتجربة هي البرهان الأكبر ، فكونوا أطباء بلا حدود ، لمواجهة داء الغفلة والجحود. إشارة : ومن لاذ بالله في دربه=كفاه المهيمن من كلِّ شرّ