وأنا عائد من عملي وبينما أنا واقف أمام إشارة ضوئية في مدينتي المقدسة، مستمتع بحمرتها المثيرة للضجر في ظهيرة مكية قائظة، إذا بزلزال يفجر صمت المكان ويقذف برأسي ككرة بولينج مرتين متتاليتين على مرمى الزجاج الأمامي، حاولت أن أرفع عقالي وألملم ما تبقى من عقلي وأنظر في المرآة التي تشطبت كشمس حارقة، فإذا بتلك الشاحنة قد ابتلعت مؤخرة سيارتي الصغيرة!. خرجت من السيارة أترنح، في محاولة لاستيعاب الموقف المذهل .. وإذا بصاحب الشاحنة الباكستاني يضم كفيه على طريقتهم الاستعطافية قائلا: (معليش عمي، سلامات .. سلامات، هذي مشكلة فرامل مافيه كويس)!. حضر المرور بعد أن كدنا نذوب من حرارة الشمس، وسحب أوراقنا الخاصة مشيرا بيده: (الحقوني على قسم العزيزية)، وصلت إلى ذلك المبنى المستأجر بعد أن سألت عدة مواطنين لم يكن معروفا لديهم لأن لوحته لوحتها الشمس، أحد الوافدين دلني على المكان!. حضرت ولم يحضر السيد الباكستاني، وسألت عنه أفادوني بأن لديه تأمينا ولا يشترط حضوره .. وبعد فترة انتظار تفيض بالملل والمراجعين وأصوات أجهزة العمليات، ظهر التقدير النهائي بتحميل سائق الشاحنة خطأ الحادث بنسبة 100 %. سألت سؤالا مشروعا: ماذا لو عبرت هذه الشاحنة فوق رأسي ومضت، أليس هناك عقاب ينتظر هذا المتهور، أم أن شركة التأمين منحته تصريحا: (مادام انك مأمن ادعس على رقاب الناس وامشي)؟!. طلبوا مني بعدها الذهاب إلى الورش لمقابلة مندوب المرور هناك وتقدير الحادث من قبل ثلاث ورش تصليح على الأقل، كل هذا والمتسبب في الحادث يهنأ بغداء شهي وقيلولة باردة!. وهناك مرمطة أخرى، فمندوب المرور والمهندسون الوافدون الذين معه كأني بهم يحاولون أن يوفروا على شركات التأمين بتصليح بعض القطع الحديدية المعطوبة من هيكل السيارة بدل استبدالها بقطعة جديدة!. وبعد .. عدت للمرور لتحويلي إلى شركة التأمين التي حملت لها إضبارة من الأوراق والمستندات في ملفنا العلاقي العتيق صاحب التأريخ الأسود مع طالبي الوظائف، كل هذا والمتسبب في الحادث يسرح ويمرح بمقاتلته العتيدة في شوارع مكة. وبعد (مرمطة أخرى) من المراجعة تجاوزت الأسبوعين حصلت على مبلغ التأمين من الشركة، وبعد شهر من (مرمطة) التكاسي والمشاوير الخصوصية استلمت سيارتي من ورشة (مصائب قوم عند قوم فوائد)!. تذكرت هذه الحادثة، وأنا أقرأ خبر العائلة التي نجت من حادثة الانقلاب لتأتي شاحنة مسرعة وتسحقها على مرأى من الأب المكلوم، وبت أتساءل بحزن: هل تكفي شركات العالم بأسره للتأمين لتعويض هذا الرجل ما فقده من زوجة وأبناء؟!، في ظل تهور سافر من سائقي الشاحنات تحت غطاء التأمين، وتراخ واضح لتطبيق العقوبات الرادعة من قبل الجهات المسؤولة .. لا أعتقد يكفي، ولا يكفي!.