الغني غنى النفس، والقناعة كنز لا يفنى، ولا يكون الإنسان غنياً إلا إذا كان قنوعاً، راضياً بما قسم الله له، باذلاً ما يستطيع لمن حوله من أهله، ولمن هم أكثر منه فاقة وحاجة، وكم من إنسان كثير المال فقير الإحساس والعاطفة، يُعدُّ من الفقراء المدقعين، وإن كان في عرف الناس من الأغنياء المترفين. رأيت موقفاً في مكة دفعني إلى كتابة هذه المقالة، امرأة كبيرة السن، مرَّت يدها إلى رجل يجلس أمام مقود سيارته «الثمينة جداً» فزجرها بشدة، وأغلق زجاج نافذة سيارته، فانكسرت راجعة إلى الوراء، واتجهت بخطوات واهنات إلى الرصيف، فما كان من عامل باكستاني إلا أن تقدم إليها، وأعطاها قدراً من المال، في الوقت الذي حرَّك فيه ذلك الغني سيارته وذهب، وشعرت برغبة ملحة في نفسي أن أتحدث إلى ذلك العامل، فتقدمت إليه صافحته مسلّماً، وردَّ عليَّ السلام بحرارة واهتمام، قلت له: جزاك الله خيراً على ما تصدقت به من مال على هذه العجوز، فشكرني وقال: أنا أطلب البركة والأجر من الله، قلت له: لقد كانت واقفة منذ فترة ولم تعطها شيئاً، وحينما صدها صاحب السيارة أعطيتها المال، فهل شعرت بالشفقة عليها؟ قال: إن الله هو المعطي، وأنا رأيت المشهد، ورأيت كيف نهر صاحب السيارة هذه العجوز، وأنا أعرف أنها محتاجة، وعندها أولاد أيتام لأن ابنها توفي قبل فترة، وهي تسكن قريباً من هذا المكان، وهنالك من العاملين في هذه المحلات التجارية من العمال من يعطونها مالاً قليلاً حسب قدراتهم، وقد رأيت أن صاحب السيارة قسى على هذه المرأة، وبخل عليها، فأحببت أن أخفِّف عن نفسها، وأسليها فأعطيتها ما كتب الله كما رأيت، ثم قال: لو أعطاها صاحب السيارة خمسين ريالاً مثلاً لكسب أجراً عظيماً، لأنه سيكون سبباً في سد حاجة عدد من المحتاجين تعولهم هذه العجوز، فكيف لو تنازل صاحب السيارة عن كبريائه، وسأل المرأة عن حالتها، وحاول أن يصل إلى معرفة وضعها المادي، وساعدها مساعدة ترفع عن كاهلها ثقل الحاجة والفقر والمعاناة؟. وذهب العامل، وبقيت أتأمل هذا الموقف، وأقلِّب النظر فيه، وأتدبَّر الحالة من زواياها المتعددة، من حيث التسول والمتسولين ومشكلاتهم الكثيرة، ووجود نماذج منهم اتخذت التسول عملاً وتجارة، وتفنَّنوا في ذلك باستخدام أساليب كثيرة من الادعاء والتظاهر بالفقر والحاجة، ومن حيث الفقر المدقع الذي يعاني منه كثير من الناس، فيضطرهم إلى التسول لسد الحاجة، فيصطدمون بالصورة السلبية التي رسمها المتسولون المدعون، ومن حيث الجمعيات الخيرية ودورها في متابعة أحوال المحتاجين الحقيقيين الذين يعيشون حالات من الفقر تفوق الوصف، وهم صنفان: أحدهما لا يسأل الناس إلحافاً، ويكافح من أجل لقمة العيش كفاحاً كبيراً، والآخر لا يجد مناصاً من سؤال الناس ليجد ما يسدُّ شيئاً من حاجته، ومن حيث أصحاب الأموال ورجال الأعمال ومدى سعيهم للبحث عن الأسر الفقيرة المحتاجة بحثاً دقيقاً ليقوموا بشيء من حق المال الذي منَّ الله به عليهم، من حيث متوسطي الدخل الذين يعدون أغنياء إذا ما قيسوا بالفقراء المحتاجين ومدى إسهامهم في مساعدة من يعرفون من المحتاجين، تأملت ذلك كله، فوجدت أنني أمام قضية كبيرة، لا ينفع معها الترقيع، ولا يعالجها إلا الحل الشامل، الذي يسهم في معالجة أصل القضية معالجة حاسمة، وتساءلت في نفسي: ألا يمكن للجهات المسؤولة عن هذا الجانب أن تقدم حلاً متكاملاً عملياً لهذه المشكلة الاجتماعية الكبيرة؟ ألا يمكن لوزارة الشؤون الاجتماعية أن تدرس هذه المشكلة بصورة عملية مباشرة من خلال النزول إلى الميدان وتتبع حالات المحتاجين والمواظبة على ذلك لوضع برنامج عملي بالتعاون مع رجال الأعمال والأغنياء الذين لا يعرفون أحوال الفقراء القريبين منهم فكيف بالبعيدين؟ ثم قلت في نفسي: لماذا تنقبض يد الغني حينما تمتد إليه يد محتاج؟ ولماذا لا يتحول من موقف المشكك في صدق من يسأله مساعدة، إلى موقف الباحث عن حالة ذلك السائل حتى لو تعب في بحثه، ليفوز بأجر انتشاله من حالة الفقر إذا تأكد منها؟ بين موقف الفقير الباذل، والغني الباخل مساحة من التأمل والتفكير في وضع حلول ناجعة حاسمة، ما أظننا جميعاً بمنأى عن مسؤوليتنا فيها أمام الله عز وجل الذي فرض الزكاة، وأمر بالصدقة، ودعا إلى التكافل والتعاون، ووعد على ذلك كله بالأجر العظيم في الآخرة، والبركة والسعادة في الدنيا. إشارة: اللهم أعط منفقاً خَلَفاً، وأعط ممسكاً تَلَفاً.