يتحدث بعض الناس عن العلاقة بين المسلمين وبين غيرهم، فيلخصونها في ثلاث أحوال: إما دخولهم في الإسلام، أو قبولهم لدفع الجزية أو القتال، وهذا من الأخطاء العلمية التي يجب تصحيحها، فهذه الأشياء هي علاقة الجيش الإسلامي المقاتل بجيش العدو، فهي إذا علاقة جيش بجيش في ساحة القتال، بمعنى أن من شدة الاحتياط أن الإسلام لا يأذن بالقتال حتى في حال الحرب إلا بعد الدعوة إلى الإسلام، فإذا رفضوا الدعوة عرضت عليهم الجزية مقابل حمايتهم، فإذا رفضوا قاتلناهم، لكن علاقة المسلمين بالأمم الأخرى أوسع من هذا، فهناك علاقة دعوة، وعلاقة صلح متفق عليه عند الفقهاء، وعلاقة مهادنة، وعلاقة سكوت ومتاركة، ولو نظرنا إلى رقعة الحياة البشرية من لدن عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى يومنا هذا لوجدنا فيها رقعة كبيرة جدا هي دول وأمم مسكوت عنها، وليست داخلة في دائرة من الدوائر، ولا ثبت لها حكم من الأحكام لعدم احتكاك المسلمين بها أصلا. إذا قضية التخيير بين الإسلام أو الجزية أو القتال تمثل علاقة الجيش بالجيش، أما علاقة الفرد بالفرد والدولة بالدولة والأمة بالأمة فهي أوسع من ذلك، وقد تكون علاقة مصالح مشتركة، والله سبحانه وتعالى يقول: «غلبت الروم* في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون* في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون» [الروم:2-4]. وقد فرح المسلمون بانتصار الروم على الفرس؛ لأن الروم أهل كتاب، والفرس وثنيون، وأولئك أقرب إلى المسلمين، وقصة أبي بكر مع زعماء قريش في هذا معروفة، كما في مسند أحمد، وسنن الترمذي، والنسائي في الكبرى. وهنا سؤال كثيرا ما يطرح: هل الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم القتال أم السلم؟ وهذا السؤال هو الآخر ليس له أصل، ولم يرد في قرآن ولا سنة، ولا يعرف فيه بيان لعلماء السلف، ولا يلزم أن نضع تأصيلا هنا، إلا أن نقول إن الأصل في علاقة المسلم بغيره هي علاقة (المعروف) «وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا» ومن التعارف التعامل بالمعاني الأخلاقية الفطرية التي جبل عليها الناس، وهذا يفعله المسلم لذاته، ولا يمنع أن يكون سببا وتمهيدا لنشر الهداية والدعوة. ولذلك حتى في حال القتال هناك الدعوة قبل القتال، والقتال هو ذراع للدعوة وحسب، فلو نظرنا إلى مدينة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، لوجدنا أنها أصبحت عاصمة الإسلام بالدعوة والإقناع لا بالقتال، إنما احتيج إلى القتال لحمايتها، بعدما أصبح أكثر أهلها مسلمين، وهنا يتعرضون لتآمر أقلية كافرة مع جهات خارجية للأذى، فيكون القتال لحمايتها وتأمينها. إن النبي (صلى الله عليه سلم) دعا بمكة بغير قتال، ودخل المدينة بغير قتال، وفتح مكة في نهاية المرحلة النبوية بغير قتال، وسمى الله صلح الحديبية فتحا مبينا مع أنه لم يكن فيه قتال، وهذا يؤكد أهمية الدعوة، وأن المسلمين جميعا بحاجة إلى الدعوة، وكثيرا ما يطرح بعض الإخوة هذا السؤال: هل الجهاد فرض عين أم فرض كفاية؟ فكنت أقول: لهم دعونا الآن مؤقتا ننظر إلى قضية الدعوة إلى الله: هل هي فرض عين أم فرض كفاية؟ من عهد النبوة، إلى عهد بني أمية، إلى عهد بني العباس، إلى اليوم هل يقول قائل: إن كل الناس بلغتهم دعوة الله؟ هل يقول قائل: إن كل المسلمين عرفوا دينهم؟ قطعا لا، ففي كل بلد إسلامي يوجد مناطق شاسعة تعيش ألوانا من الجهالات، فضلا عمن يعرفون ويخطئون، وهل قامت الحجة على البشر جميعا بإيصال الرسالة إليهم، أم لا زال معظم سكان الأرض يجهلون الإسلام ولم يسمعوا به، أو يعرفونه من خلال ما يقوله عنه أعداؤه وخصومه؟ إذا الدعوة فرض عين على المسلمين بسبب عدم وجود من يقوم بكل الدعوة، فإذا افترضنا أن الدعوة فرض عين، والجهاد فرض عين، والطب فرض عين، والاقتصاد فرض عين، وهكذا، فمعناه أن كل مسلم أصبح عنده مجموعة من فروض الأعيان لا يمكن أن يقوم بها، ولذلك يرجع الأمر إلى نوع من التخصص والانضباط. إن الإفراط في اعتبار العلاقة مع غير المسلم علاقة حرب يصنع توترا في النفوس ونفرة شديدة، وانفصالا وقطيعة لا محل معها لحديث، ولا حوار، ولا شراكة، ولا مصالح متبادلة، ولا تزاوج، ولا جوار، ولا مجادلة بحسنى ولا بغير حسنى، حتى أصبح البعض يؤصل لعدم جواز النظر إلى وجه الكافر، وكيف كان الرسل إذا يخاطبون أقوامهم؟ ومن أين جاءت هذه الإغلاقات إلا من الجهل وضيق النفس وسوء فهم الشريعة. وحتى يقوم المسلم بالدعوة، وهو يحس بأن الدعوة ليست سوى مقدمة، وأن المقصد النهائي هو المناجزة والقتل والقتال، فهو هنا لن يقوم بالدعوة والحوار حق القيام، وإنما هو الإعذار فحسب. إن المسلم التقي يستشعر الخطر العظيم من تقحم حرمات الله بقتل من ليس أهلا للقتل، ومن هدم بناء بناه الرب بقدرته وحكمته، وكان هذا العدوان هو أول جريمة وقعت بين ابني آدم: «قال لأقتلنك» (المائدة: من الآية27)، وهي التي تخوفها الملائكة حين أخبرهم الله بخلق الإنسان: «أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء .. ؟» (البقرة: من الآية30) وإنما مقتضى الإيمان أن يسل السيف بأمر الشريعة، ويغمده بأمر الشريعة أيضا، والصبر الحق هو الإقدام في موضع الإقدام، والإحجام في موضع الإحجام، كما أرشد إليه الأئمة الأعلام. وفي حالات كثيرة يكون القتل جائزا، ويتقصد النبي (صلى الله عليه وسلم» الإعراض عنه ، ويؤثر الصفح والعفو والتجاوز، ولم يبتزهم باشتراط أو طلب، ومن هذا قصة غورث بن الحارث، وهو في صحيح مسلم، وقد هم بقتل النبي وشهر السيف عليه، فحماه الله منه، وحين عرض النبي عليه الإسلام أبى، وقال: أعاهدك ألا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فتركه النبي (صلى الله عليه وسلم) . إن قتل مثل هذا الرجل سائغ قطعا بجميع قوانين العدل، ولكن لما تحقق المقصود الأصلي، وهو السلامة من عدوانه وقتاله للمسلمين خلى النبي سبيله وتركه، وهكذا من ثبت عليهم التآمر من المنافقين كعبد الله بن أبي، فإن النبي لم ينف استحقاقهم للقتل من حيث الأصل، ولكنه صرفه عنهم لعارض من تحقيق مصلحة التآلف بين المسلمين وأفراد المجتمع المدني، أو دفع مفسدة الحملات الإعلامية المضادة. إن الإسلام يكرم الحياة الإنسانية ويحترمها، حتى جاء في القرآن وصف الشهداء بقوله: «بل أحياء عند ربهم يرزقون» [آل عمران:169]. وقد جرى نقاش بيني وبين أحد الإخوة فقلت له: هل الشهادة هنا هدف وغاية أم وسيلة؟ إن الشهادة في سبيل الله وسيلة وليست غاية، أي ليست مقصودة لذاتها، وإلا فإن الله سبحانه وتعالى يكره موت المؤمن، كما في الحديث: «يكره الموت وأنا أكره مساءته» أخرجه البخاري (6502). ويحب الله تعالى بقاء المؤمنين على ظهر الأرض وحياتهم وطول أعمارهم، وأن يستمتع بهم أهلوهم وينتفعوا بهم، وأن يعبدوه سبحانه ولا يشركوا به شيئا، وأن يدعوا إليه على بصيرة، ولكن الشهادة ضرورة، وقد علم الله أن الحرب جزء من الحياة لابد منها، كما ذكر الله سبحانه القصاص وهو قتل وسماه حياة: «ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون» [البقرة:179]. والعرب في الجاهلية كانوا يقولون: القتل أنفى للقتل. فبدأ المثل الجاهلي بقتل وانتهى بقتل، ولكن في القرآن الكريم، ذكر الله عز وجل القصاص وسماه حياة، فالإسلام دين يتشوف إلى المحافظة على حياة الناس وتحسينها، ولهذا كانت الدعوة حياة: «أو من كان ميتا فأحييناه» [الأنعام:122]. ولذلك أقول: إن الظرف الزمني قد يوجد نوعا من التوتر في نفوس الناس، فالمشكلات التي تقع في العالم الإسلامي، والعدوان الذي يجتاحه، ووسائل الإعلام والفضائيات التي تصور هذه الجرائم، والعجز الإسلامي السياسي والشعبي، وضعف الانضباط والتنظيم، وضعف التواصل والنصرة، كل ذلك أوجد مزاجا متكدرا حزينا متوترا عند كثير من شباب المسلمين دفعهم إلى العنف والميل إلى منهجه. إن الإسلام ينحاز للحياة، والموت في سبيل الله مطلب له ظرفه ومكانه، والحياة في سبيل الله مطلب أعظم، ومن لم يتقن فن الحياة في سبيل الله فلن يتقن فن الموت في سبيل الله.إذا الإسلام دين الحياة بكل ما تحمله من هنات، وبكل ما تزدان به من هبات.