كان بكاؤه حاراً، كما كان صوته -عبر الهاتف- متهدجاً معبراً عن الألم الذي يعتصر قلبه حزناً على فراق أخيه، قال لي: أخي وشقيقي الوحيد فقدته قبل أسابيع فشعرت أن الدنيا بعده قد أظلمت، وأن حياتي قد تحطمت، وأن سعادتي قد أدبرت، وظل يدور حول هذا المعنى المعتم من المشاعر، وأنا أصغي إليه إصغاء المتفاعل معه، الحريص على إشعاره بمشاركتي له، واهتمامي بما يقول، حتى إذا هدأ وسكن انفعاله، سألته عن قصة أخيه بشيء من التفصيل، فتبين لي أنه أحد جنودنا البواسل الذين قاموا ويقومون بواجبهم في مواجهة المعتدين على حدودنا الجنوبية، وأنه قد أبدى من الإقدام والبطولة والحماسة في القتال ما لفت إليه الأنظار، وأنه كان سعيداً بما يقوم، راضياً بتقديم نفسه في سبيل الله، مقتنعاً بأن الدفاع عن الوطن، وصد المعتدي عنه جهاد ينال المحتسب فيه إحدى الحسنيين، النصر أو الشهادة. لقد سمعت من محدثي عن أخيه كلاماً جميلاً، أثلج صدري، وفتح أمامي باباً فسيحاً لمواساته، والتخفيف من ألمه وحسرته، حيث قلت له: أنت غير ملوم على الحزن، ففراق الأحبة مؤلم، والحزن على ذلك مباح متاح، بل لا بأس بالبكاء عليهم، والتعبير عن الألم لفراقهم، فقدوتنا الحبيب محمد عليه الصلاة والسلام قال: «إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا»؛ فحزن القلب، ودموع العين مما لا قبل للإنسان بمواجهته حينما يفقد عزيزاً، وإنما يكون المحظور شرعاً فيما فوق ذلك، من التسخط، واليأس، والنطق ببعض ما لا يجوز من عبارات توحي بعدم رضا الإنسان بقضاء الله وقدره، وبما لا يليق من عبارات الاعتراض على الله سبحانه وتعالى، والمبالغة في الاستسلام لليأس والقنوط، ونبّهت محدّثي إلى التجاوز لما أبيح في هذا المقام من العبارات كقوله: (حياتي تحطّمت، وسعادتي أدبرت) وما شابهها، فهذه كلمات لا تليق بمسلم آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبالقدر خيره وشرّه، وقلت له: لقد حدّثتني عن أخيك -رحمه الله- بما يستحق أن تفرح به وينشرح له صدرك، من محافظته على فرائض دينه، وطاعته لوالديه، وقيامه بواجب الأخوة وصلة الرحم، وحجه وعمرته، وصلاح نيّته في القتال حيث كان يرى أنه جهاد في سبيل الله، وتلك -والله- صفات يبتهج بها الإنسان، ويتمنّى كل مسلم أن يحيا ويموت عليها، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، وحمدت الله حينما شعرت أنه قد هدأ، واسترجع واستغفر، وعبّر لي عن شعوره بالرضا التام والسعادة بما ذكرته به. إنها مواجهة فُرضتْ علينا، واعتداء واضح على بلادنا وحدودنا المستقرة الآمنة، ومعركة لم نسعَ إليها كما صرّح بذلك المسؤولون في بلادنا أكثر من مرة، فهي معركة حقّ يخوضها أبناؤنا أيدهم الله بنصره، وتقبل من قتل منهم في الشهداء والصالحين، وهل هنالك شرف أعظم من شرف الشهادة التي نرجو أن يكون من قتل من جنودنا قد فازوا بها عند ربهم. إني أعزي هذا الأخ وأهله وأعزي كل أسرة قدمت شهيداً -بإذن الله- في هذه المعركة، وأدعو بالنصر والتأييد لجنودنا البواسل في معركة الدفاع عن العقيدة والوطن. إشارة: لم ييأس القلب يا جازان إن=