في المقال السابق، فاتني وأنا أتحدث عن جائزة شاعر عكاظ أن اللجنة المنظمة كانت ألغت اشتراط الموضوع عن التضامن العربي في قصائد الشعراء المشاركين.. هذا يعني أن المشاركات الشعرية التي تنافست في جائزة شاعر عكاظ كانت مفتوحة لفضاء العقل الشعري .. لم يكن هناك تحديد للموضوع.، الآن تذكرت ردود أفعال مثقفينا وشعرائنا على فكرة الموضوع، فكرة القيد الموضوعي .. ما كانوا مع تقييد العقل الشعري بقيد الأفكار .. الشعر في الحقيقة مجاوز للأفكار.، إن الأفكار تغرق في الإيحاء الشعري فلا نكاد ندركها إلا بكدٍ ذهني، هو الآخر ذو صفةٍ مميزة .. لم يكن هناك اشتراط للموضوع .. إنما لم أذكر هذه المسألة وأنا أكتب مقالي السابق. إنني نسيت ، وأنا الآن أعتذر وأصحح ..، غير أنني لا زلت أعجب كيف كدنا نحول الشعر الذي يتنافس في جائزة كبيرة جداً إلى مبحث أغراض شعرية لولا نفور عقلنا الجمالي من الفكرة.، استجاب عقل اللجنة المنظمة الجمالي لحجة المثقفين والشعراء الجمالية هي الأخرى فعدل عن شرطه الأول .. الواقع أنني الآن أعي حسن نيتهم، كانوا يريدون الجمع بين فكرة الشعر وطبيعة الغاية، لكن الشعر في الحقيقة ليس سبيلاً إلى الغايات.. إنه هو غاية جمالية مستعلية، هذه صفته وهذه أزمته، والشعر ذاته لو تنبهنا ائتلاف لعقلنا العربي كله ومقاربة لعاطفتنا العربية كلها، لكننا نقع في أسر تصوراتنا القريبة ونريد أن نطوع لها ما لا يمكن تطويعه من طبيعة عقلنا الجمالي.. إنني سأقولها بأمانة الآن : هل كان شاعر عكاظ منفكاً من أسر الفكرة أو الاشتراط الأول؟ إن قصيدته كانت محملة إلى حدٍ كبير بالفكرة، كانت قصيدة مطاردة للفكرة فيما يبدو.. الشاعر نفسه في تصريحٍ له قال: \"إنها عن التضامن العربي\"، يبدو أنه شرع في قصيدته وقد بنى على الإعلان الأول عن اشتراط الموضوع وما كان يعلم شيئاً عن العدول عنه .. إنني لا أقلل من شأن القصيدة، إنني استمعت إليها وهي في أوسط السلم الجمالي في ظني . إن فيها بعضاً من استعلاء الشعر، ليست القصيدة بالضعف الذي يخرجها من أن تكون شعراً مقبولا ً.. وأنا مع هذا لست ضد الموضوع من حيث هو فكرة بدهية، لكن هناك فرقاً بين هذا وبين التسخير الشعري للأفكار، وقد أحسنت اللجنة المنظمة حين عدلت عن شرطها الأول .. إن في الوسع أن تكون قصائد شعراء عكاظ أبعد شأواً وأثرى عمقاً في معمارها الجمالي التخييلي .. أليس من الممكن أن تكون على شاكلة قول النابغة، نابغة الأمس : ترائب يستضيء الحَلْيُ فيها=كجمر النار بُذ ِّر بالظلام أليس من الممكن أن تكون على شاكلة الخلط المهيب بين المحسوس والمعنوي في قول بدر بن عبد المحسن: (الليل باب له حارسين : برد وسحاب)، لو أنني أردتُ صياغة هذا الجمال في تركيب نحوي آخر لقلتُ : إنما الليل بابٌ له حارسان كل بردٍ به : كل ساري سحاب وستلاحظون كيف تكون اللغة متراجعة الاكتظاظ.، إنها منحسرة لأن صياغة المعنى الشعري بتبديل الوعاء اللغوي، وهو ما فعلته في مقطع بدر بن عبد المحسن كانت انشغالاً متقصداً لما يشبه العقل الشعري، أكثر منها ظرفاً عقلياً فرداً وهو ما كنت أعرَّف به الشعر من قبل .. هذا الذي يحصل في العادة حين يهتم شاعر القصيدة أي قصيدة بفكرة معينة.. إن الشعر يتحول إلى ما يشبه الاعتذار للأفكار، يجعلها أفكاراً ذات توقيعٍ موسيقي، ليس أكثر، والمسألة عند ذلك لا تعدو كونها زخرفاً.. إنني أريد أن أشبه فكرة الشعر بحالة \"الصدفة والمحارة\"، حتى ما نسميه نصاً شعرياً لا يكون كله شعراً، إن الشعر يعادل المحارة والنص الشعري كله يعادل الصدفة، لكنها صدفة بمحارة ليست خلواً من الامتلاء.، ستلاحظون إذاً أنني أقول: الشعر والنص الشعري، ليس كل النص الشعري شعراً كما أنها ليست الصدفة كلها محاراً، لماذا أقول هذا الآن؟ فقط لأؤكد للمشرفين على سوق عكاظ أني أهبهم عقلي قدر ما أثق به، فإذا فقدتُ ثقتي به لا سمح الله أرحتهم من شري.. قصائد شاعر عكاظ نريدها فوق التاريخ، نريدها استواءً لعقلنا الشعري في ذروته الأعلى .. إنني شديد الوفاء لكل فكرة تنطوي على الفرادة والإدهاش، وفكرة سوق عكاظ وشاعر عكاظ أراها بهذه الصفة.