لعلّ الشاعر العماني محمد الحارثي ضمن قلة من الشعراء العرب يجمعون بين ارتياد آفاق التخييل الشعري من ناحية، واكتشاف مجاهل المكان، عبر السفر والترحال من ناحية أخرى. يجوب هذا الشاعر الشاب فضاءات القصيدة، بحثاً عن معنى للذات والعالم، كما يترحل في الجغرافيا مأخوذاً بفكرة السفر وحده، ومقتحماً مجهول المكان ومعلومه. جال صاحب «لعبة لا تمل» الجزر العذراء وزنجبار وتايلاند وفيتنام والأندلس والرّبع الخالي وكمبوديا والهند والنيبال، وتسلق جبال الهيمالايا. وكتب عن هذه الأمكنة، كتابة مشعة وغنية، تسرد وتقص وتصف وتتهكم وتجري المقارنات، وتمزج بين دقة التفاصيل بالغوص عميقاً في البشر وعادات المكان وأساطيره، ولا تنسى المواقف الصعبة والطريفة معاً، والتي واجهته في أسفاره، كل ذلك يرسم، في شكل واضح وعميق، صورة للمكان وللإنسان الذي يقيم فيه. جمع الحارثي أسفاره ونشرها في كتاب عنوانه: «عين وجناح» حاز جائزة «ابن بطوطة للأدب الجغرافي» لعام 2003 التي يمنحها مشروع «ارتياد الآفاق». وهبت الأسفار التي يقطع خلالها مسافات طويلة باتجاه أمكنة بعيدة وجزر نائية، قصيدته مناخات ما كانت لتحضر في العمل الشعري لولا مزية الترحال. فالسفر، كما يقول، يفتحُ مغاليق النفس ويشحن مجساته الشعرية بالضوء، «ستلاحظ أن كثيراً من القصائد كتبتها في حالات سفر، فثمة وشيجة بين الاشتغال الشعري واشتغالي في الكتابة الرحَليّة (من الرحلات)». يستبعد الحارثي، الذي يعد واحداً من أهم شعراء الخليج، إذ عرف باكراً باشتغاله الشعري المميز، احتمال أن تتسبب كتابة الرحلة عنده، في حرمان قصيدته من أجواء ومناخات أكثر التصاقاً بالشعر. ويقول: «تلك كتابة أخرى موازية، وأنا أفرق بين طبيعة هذه وتلك»، مؤكداً أن فضاء الرحلة «يعطيني مساحة للاشتغال على القصيدة التي أكتبها أحياناً في فترة قصيرة خلال الرحلة، لكنها قد تعبر عن مناخات مستوحاة ممّا يحدث في الوطن». كلما اكتشف صاحب «فسيفساء حواء» مكاناً مجهولاً بالنسبة له، زاد شغفه بالسفر، وإن رأى أن القصيدة في حد ذاتها، فضاء سفر بامتياز، «من دون حاجة إلى الترحل الفيزيقي أو الجسدي». يترحل الشاعر العماني في المكان ليجد فضاء روحياً ويشعر بانسجام مع نفسه، يلهمه كتابة القصائد، «يعني لو أحصيت الفترات التي أقضيها في عُمان، تمر من دون أن أكتب قياساً إلى فترات السفر، أجد أنني أنجزت عدداً أكبر من القصائد خلال السفر». ويضيف موضحاً: «قصائد قد لا تعبر، بالضرورة، عن فكرة السفر أو الرحلة، لكنني أشعر أنني في حالة ملهمة تساعدني في الكتابة». شغف الحارثي، الذي التقيناه على هامش الدورة الأخيرة لمهرجان الجنادرية إذ قرأ قصائده في أمسية لشعراء عرب، ليس فقط بالأمكنة وارتيادها، بل بالرحلة ذاتها، يترحل ويسافر من أجل السفر، وليس لهدف آخر، ثقافي مثلاً. رحلات الحارثي، تشبه الاحتفالية البهيجة بالرحلة نفسها، كما يقول الشاعر زاهر الغافري: «بكل عفويتها وصخبها وحميميتها وتفاصيلها الصغيرة». ويلفت الغافري في مقدمة «عين وجناح» (طبعة كتاب في جريدة) إلى أن الحارثي حين يكتب أسفاره، فإنه كما لو أنه «يصغي إلى نفسه وروحه، ليكتشف ذاته، والآخر، وهذا هو أحد أهداف الرحلة أصلاً». عاش صاحب «عيون طوال النهار» حياة المنفى، الاختياري طبعاً، وأقام لسنوات خارج بلده عُمان، في عواصم عربية. هذه الإقامات الطويلة في مدن مختلفة في العالم، عرفها أيضاً شعراء عمانيون آخرون، قبل أن يعودوا إلى وطنهم. اسأله كيف يؤول هذه العودة إلى الوطن، بعد سنوات من الغياب، فيرد بإضفاء بعد تاريخي وأسطوري على هذا الترحل والاغتراب في الأمكنة البعيدة. يقول: «إن العُمانيين أيام الإمبراطورية العُمانية ترحّلوا كثيراً، ولم يكونوا كما هم عليه اليوم أسرى الوظيفة الحكومية البائسة. فالسُّفن العمانية كانت ترحل إلى شرق أفريقيا وإلى السند والهند والبصرة وزنجبار، ليعودوا بعد تلك الأسفار بسواحل ومخيلة وقصائد». ويرى أن «الترحل صيرورة متجذرة في الذات العُمانية». ويشير إلى أنها ليست مصادفة عرضيّة أن تظهر أسماء شعرية في ثمانينات القرن الماضي، مثل سماء عيسى وسيف الرحبي وزاهر الغافري وعبدالله الريامي خارج عُمان، «تشظياً في عُمق التجربة وارتباطاً بمنفى اختياري في المغرب والقاهرة والشام لتعود في النهاية إلى جذرها الأول». مؤكداً أن التكوين الشعري لهؤلاء الشعراء كان في الخارج وليس في عُمان، «التي عادوا إليها بتجربة ناضجة متحت منها مخيلة الجيل اللاحق لهم». من ناحية أخرى، تحفل تجربة الشاعر محمد الحارثي بالاشتغال على مواضيع وحالات تعكس ذاتاً تستولي عليها فكرة الغامض والمجهول، وإعادة اكتشاف المعلوم في الذات والمكان. ولا يخلو شعره من السخرية وأحياناً نعثر في قصيدة على روح مرحة، وفيها من الفكاهة مقدار ما تعكسه من السخرية اللاذعة، والتهكم على وضع الشعر اليوم وأحوال الشعراء. تحضر في قصيدته أسماء مهمة في الشعر العربي والجاهلي، أبو الطيب، امرؤ القيس، زهير ابن أبي سلمى، فهل يعني ذلك حواراً حميماً يقيمه مع هؤلاء الشعراء، عبر القصيدة، أم مجرد الاستمتاع بالشعر الخالص، في معزل عن نوع القصيدة؟ يلفت صاحب «كل ليلة وضحاها» إلى أنه دائماً ما يحاول الاشتغال على رموز شعرية شكلت ذائقته، مثل امرئ القيس والمتنبي وسواهما في نسيج القصيدة، «ربما هي محاولة استعادة لبذخ جزالة أولئك الشعراء وإعادة سبكها، تسييلها بالأحرى في فضاء قصيدة النثر»، مشيراً إلى أنه يروق له الإشارة إلى أسماء الكتاب والشعراء في المتن الشعري، «لأن تكرار أسمائهم والإحالة إلى فرادتهم الأولى تعني لي الكثير. تكرارهم داخل قصيدتي أقرب لتسبيح الغلام بحمد شيوخه وآبائه الشعريين». يشعر صاحب «أبعد من زنجبار» بأنه مدين لالتفاتة بعض الشعراء المهمين إلى تجربته، مثل سعدي يوسف الذي يصف تحديثه بأنه «بالغ المسؤولية». ويقول عن لغته إنها «ليست محض احترام مفترض للغة، إنه احترام الحياة ذاتها، وعلاقة النص بهذه الحياة». يمتدح الحارثي شغف المتابعة لتجارب الشعراء الشباب الذي يبديه الشاعر العراقي الكبير الذي لم يصطنع عقدة متوهمة مع قصيدة النثر، كما يشير الحارثي الذي على رغم ثناء سعدي يوسف عليه، يعتقد أن على الشاعر أن يكون حذراً من الاتكاء على اللغة وحدها فحسب، «لأنها بفطرتها جاذبة، وقد تأخذ الشاعر بعيداً من لؤلؤة الصورة الشعرية العميقة، مع التأكيد أن الولع بتضادات اللغة وانثيالاتها أسٌّ يُسهم في مكونات الاشتغال الجمالي في البنية الشعرية». أيضا يكتب عنك زاهر الغافري في قصيدة عنوانها «رحلات لا تنتهي» وهي مهداة إليك: «هكذا... ترحل دائماً إلى حيث تقيم المغامرة ولائمها الكبرى». أيضاً يكتب: «في أحلامك تنام مدن غير مرئية». ويكتب أيضاً: «لكنك تعرف أن الطرق كلها ستعيدك إلى نقطة واحدة». ما تعليقك؟ - هذه قصيدة كتبها زاهر حين كان مقيماً في السويد. وزاهر الغافري، في نظري، أقرب إلى الشاعر العرّاف. قصيدته نبوءة شعرية، إن صح لي القول. فالنقطة الواحدة - التي يُشير إليها الغافري - أعرفها أنا كما يعرفها هو، مهما امتدت بنا الرحلات في أصقاع الأرض من نيويورك إلى كتمندو. زاهر أيضاً سافر كثيراً خارج عُمان، وقصيدته تمتح من فضاءات السفر والترحُّل، لذلك عنى لي بتجربته أمثولة شعرية أتقاطع معها، ولكن بطريقة اشتغال وأسلوب كتابة مخالفين لتجربته. هو شاعر، في نهاية كل الرحلات والقصائد، لم يكن شغولاً، في يوم من الأيام، بتكريس صوته الشعري إعلامياً، ما أعطى آخرين حضوراً عربياً لافتاً أكثر منه، على رغم تمتع اشتغاله الشعري باشتراطات الشعر الرفيع كافة. بخصوص المشهد الشعري في عُمان، كأنما هناك مسافة بين سيف الرحبي من ناحية، وغالبية الشعراء العمانيين من ناحية أخرى، ثم ما رأيك فيمن يقول بريادة الرحبي لقصيدة النثر؟ - أولاً هذه المسافة ليست موجودة في الحقيقة لأسباب كثيرة، بالنسبة إلى من لا يعرف المشهد الشعري في عمان. فتجربة سيف الرحبي لا تتقاطع فقط، بل تتوازى في انطلاقتها مع تجربة الشاعرين سماء عيسى وزاهر الغافري. والحقيقة أن المؤسس لتجربة قصيدة النثر في عُمان، هو الشاعر سماء عيسى وليس سيف الرحبي. سماء عيسى أبٌ شعري لكل من زاهر الغافري وسيف الرحبي، وإن تباينت التجارب نضجاً لا يُعبّرُ عنه بتفقيس مجموعات شعرية استباقاً لاهثاً لوتيرة الزمن. ثلاثتهم يمثلون جيلاً ثمانينياً باكراً - إن طاب لك التحقيب - تلته محاولاتي وتجارب صالح العامري وعبدالله الريامي وآخرون منتصف الثمانينات. لكن ما حدث أن سيف أضحى فجأة على رأس منبر إعلامي رسمي يُمثل وزارة الإعلام وتمثله مجلة «نزوى»، وهي مجلة ثقافية امتازت بريادة التعريف باسم عُمان مغمورة ثقافياً، لكن كما قد يلاحظ المتتبع، فإن غالبية الشعراء العُمانيين (المُجايلين لسيف الرحبي) لا حضور لها في هذه المجلة. لماذا؟... سأتحاشى التعليق على هذه المسألة. ما الذي يجذبك إلى شاعر عمودي رحل في بدايات القرن الماضي، لتستعيد منجزه الشعري وتصدره في كتاب ضخم؟ - الأسباب متعددة، ومن الصعب إحصاؤها الآن. هذا الشاعر العُماني الرائد اسمه أبو مُسلم البهلاني، وهو شاعر عاش في القرن التاسع عشر. إذ ولد في 1860 وتوفي عام 1920. وقد هاجر في عمر العشرين من عُمان إلى زنجبار شرق أفريقيا، وعاش هناك طوال حياته، وهو شاعر وفقيه وقاضٍ وصحافي رائد، كما أنه نموذج لذروة التجربة الصوفية العُمانية. وأستطيع القول إنه أحد المتصوفة الذين اقتربت تجربتهم من بعض كبار المتصوفة في طرائق اشتغالاتهم، مثل البسطامي والحلاج وابن عربي وسواهم. وتميّزه يكمن في اختلاف تجربته عن الموروث الصوفي في المدرسة التقليدية الإباضية. كما أنه شاعر استنهاضي كبير يحفظ العُمانيون قصائده الاستنهاضية التي كتبها لدى مبايعة الإمام سالم بن راشد الخروصي عام 1913 إثر انقطاع الإمامة نحو أربعين سنة ساد فيها الجور والظلم. لكن المؤسف أن الطبعات المحلية الجديدة، الأهلية منها والرسمية، تحاول أن تخفي هذا الجانب في أبي مُسلم البهلاني، وتظهره مجرد شاعر إلاهيات وتصوف ومدائح نبوية. لذلك عزمت على تحقيق منجزه الشعري طوال ثلاث سنوات، وقد صدرت آثاره المحققة أخيراً فيما يربو على 900 صفحة عن منشورات الجمل. هذا الكتاب أعادني إلى الشعر الكلاسيكي، وأشعر أني قدمت واجباً مهماً تجاه بلدي ومُنجزها الشعري مُتمثلاً في إعادة الاعتبار لهذا الشاعر الكبير الذي غمطه العُمانيون حقه وما زالوا يفعلون. من المؤسف أن الكتاب منع في معرض مسقط الدولي للكتاب من طرف الرقابة، ولا أعرف لمَ لا تزال لدى وزارة الإعلام العُمانية عقدة مستفحلة من قصائد أبي مُسلم الاستنهاضية، على رغم أنها كُتبت مطلع القرن العشرين؟ المنع، في نظري، يؤكد قيمة هذا الشاعر الكبير، كما يؤكد ضيق أفق حرية التعبير في بلادي التي تفاخر مؤسساتها الرقابية بمنع أكبر شعرائها الكلاسيكيين. يشغل الحارثي نفسه بمتابعة قضايا ومواضيع صميمة في بلده، يطمح إلى قول الحقيقة كما يعتقدها وإن جاءت جارحة، وهو لا يخشى شيئاً قدر خوفه أن يطغى هذا الانشغال «على البعد الشعري والجمالي لديّ». أسأله عن أوضاع المثقفين في عمان، فيتأسف على حقوقهم المغموطة، «فمعظمهم يعمل في أعمال هامشية لا علاقة لها بالإبداع، وبعضهم لا عمل له. ثمة تقصير كبير من المؤسسة الثقافية في حق الثقافة والمثقفين». ويعطي مثالاً على علاقة المثقف بالمؤسسة الرسمية، فيقول: «حين تصلني دعوات من جهات ثقافية من الخارج تهمل تلك الدعوة في سلة المسؤول الثقافي الرّسمي. ذلك النوع من العقاب لا يعنيني البتة، لأنه ليس عقاباً دويستويفسكياً خلاقاً يستحق التنديد، بل هو عقاب يدعو للفكاهة السطحية».