كان ممداً على سرير العلاج الطبيعي في نادي النصر في شارع العصارات في العاصمة الرياض حين رأيته وجهاً لوجه لأول مرة. كان اخصائي العلاج يحاول أن يساعده على أن يلعب نهائي كأس الملك أمام المنافس التقليدي الهلال عام 1401ه. قلت لماجد عبدالله: هل أنت جاهز؟ أجاب: أحاول ذلك وقد ألعب وقتاً من المباراة ولكنه لعب من البداية وسجل هدفين ثم خرج ليسجل بديله صالح اليحيى الهدف الثالث وفاز النصر 3 1. منذ ذلك اللقاء بيني كصفحي وبين ماجد عبدالله كلاعب نشأت علاقة تفاهم متبادل تطورت فيما بعد إلى صداقة دون مجاملة ثم علاقة أخوية لا مصلحة فيها. لقد كتبت عن ماجد عبدالله اللاعب الكثير من المقالات ولكن ما كتبته عن ماجد الإنسان.. ماجد المواطن.. ماجد الحضاري كان قليلاً. لقد أشغل قلمي بأدائه وأهدافه كما أشغله بقضاياه مع أعداء النجاح والنجومية والابداع. ماجد الإنسان هادئ الطباع قليل الكلام جاد في أغلب الأحوال يساعد الآخرين حسب استطاعته لا يميل إلى المظهرية أو تقديم الذات بقدر ما يحمي نفسه وحقوقه.. اجتماعي يستجيب لمعظم الدعوات التي توجه إليه.. ماجد عبدالله إنسان عاقل بكل ما تحمل الكلمة من معنى.. فأقرب الناس إليه قد لا يعرف بعض أسراره وتصرفاته. ماجد عبدالله المواطن ملتزم بالنظام لا يلجأ للاستثناء رغم نجوميته إلا نادراً.. لقد خدم وطنه من خلال كرة القدم ورفع اسمه عالياً في كل محفل كروي. ماجد عبدالله الحضاري في كل شيء وأمام كل شيء كان حضارياً خارج الملعب كما هو داخله.. لقد أطلقت عليه (السحابة تسعة) لأنه يمطر أهدافاً كما السحاب.. وأهداف ماجد عبدالله جزء من تحضره فالأهداف لغة كرة القدم والهداف عملتها النادرة وقد كان ماجد يتكلم بالأهداف النادرة ليس في عددها وإنما بجمالها وصعوبتها وكان هدفه في الصين وهدفه في نيوزيلندا العنوان الأبرز للجمال والصعوبة. للمطر بقية ثلاثون ألف متفرج وقفوا وقفة واحدة ضجت بها جنبات ملعب الملز.. السحابة تسعة تخيم سماء الملعب.. التفت مشجع يسأل جاره في المدرج: كل هذا من أجل لاعب.. ثم أضاف: إنه مغرور لم يرد تحية الجمهور أجابه جاره: سترى بعد قليل كيف يرد التحية إن له أسلوب خاص. أرعدت السحابة تسعة بجوار القائم ثم أبرقت بين يدي الحارس وأخيراً أمطرت هدفاً في المرمى.. استغرقت المهمة عشر دقائق فقط. التفت ذاك إلى جاره قائلاً: هل رأيت كيف رد التحية؟ إنه يردها بالأهداف. إن العلاقة بين المشجع واللاعب ليس علاقة تحية وتصفيق وإنما علاقة تقدير وعطاء.. يكفي أن هدفه في نيوزيلندا يعرض في مقدمة برنامج رياضي في التلفزيون البرازيلي وإن ماجد عبدالله موضوع اختبار اللغة الإنجليزية في الثانوية العامة بالبحرين ويكفي أن طفلاً في قرية نائية بالجزائر يعرف ماجد عبدالله كما يعرف الأخضر بلومي. لقد *** ماجد الاعجاب في (كل العيون في كل مكان). والليلة قد لا يسرق ماجد عبدالله من العيون الاعجاب وحسب وإنما الدموع أيضاً. قد يكون هناك بقية مطر في السحابة تسعة يهطل مساء اليوم على استاد الملك فهد ولكن المؤكد أن الكثير من الدموع ستنهمر.. أما لو قدر لماجد عبدالله أن يمطر هدفاً في آخر مباراة يلعبها في حياته فإن المطر سيختلط بالدموع على أرض الاستاد.. ستكون الليلة ليلة الدمع وقد تكون ليلة المطر والدمع. للمجد بقية وكنت قد قلت لماجد ذات يوم: للمجد بقية يا ماجد فعاد ماجد وقدم بقية المجد ولكن هذا المساء قد يحمل شيئاً من مجد ماجد. التفت بروشتش إلى حيث انطلق السؤال: هل ستقدم لنا جاسم يعقوب آخر؟ لم يجب المدرب الخبير وإنما ابتسم سعيداً وكأنه أدرك ابعاد السؤال، فالمهم ليس البطولات وإنما جيل جديد يتقدمه لاعب مثل جاسم يعقوب ثم حقق النصر مع بروشتش كأس الاتحاد وكأس الملك ونافس على بطولة الدوري لموسمين متتاليين غير أن كوكبة من النجوم يتقدمهم لاعب لا يقل شأنا عن جاسم يعقوب ان لم يتفوق عليه كان أهم ما قدمه بروشتش للنصر وكان الأسمر ماجد عبدالله.. وبعد بطولة آسيوية شارك فيها الموهوب الصغير وتصدر هدافيها قال مدرب إيراني: إن نجماً آسيوياً يلوح في الأفق وأنه قادم من السعودية. ثم شاهد الخليج هذا النجم وهو يشق طريقه من منتصف الملعب بحراسة مدافع عالمي من هامبورج الألماني حتى إذا واجه حارس المرمى داعبه بحركة الاتجاهات المتعاكسة ووضع الكرة في المرمى وانطلقت المشاهد بعد ذلك وكأنها خدع سينمائية فها هو يمارس حركة المد والجزر مع الدفاع النيوزلندي حتى كتب صحفي أوروبي: هذا الهدف لم يسجله سوى بيليه وإن هذا هو بيليه الصحراء. ثم مارس مع الدفاع الصيني لعبة أحجار الشطرنج حتى قال للمليار صيني: كش ملك وكتب صحفي صيني: لولا إنني رأيت الكرة بين قدميه لقلت أنها كانت بيديه حتى وضعها في المرمى. وجاء مشجع إنجليزي يحمل العلم الأصفر إلى ملعب الملز وبين عينيه ذلك الأسمر الذي قسم الدفاع الإنجليزي إلى نصفين قبل أن يدك المرمى بقذيفة لا تصد. وبعد مباراة النصر والهلال سألوا هذا المشجع: ماذا رأيت؟ قال: رأيت لاعباً يهزم فريقاً. وكان ذلك فعلاً فلم يكن المساء مساء النصر ضد الهلال وإنما مساء ماجد ضد الذين يخربشون ويثرثرون ويتفلسفون لقد هزم ماجد في ذلك المساء الأصفر أقلام وأصوات الخربشة والثرثرة والفلسفة. وقد فعل ماجد ذلك بالتخصص والعادة إذ يغيب هذا الأسمر ويغيب حتى ترتفع الأصوات المبحوحة وتسيل الأقلام الجافة ثم يحضر فتتحول كلماتهم وحروفهم إلى نكت تثير السخرية. في ذلك المساء قال ماجد عبدالله لكل المخربشين والثرثارين والمتفلسفين: إن لديه الكثير مما يقدمه من التعامل الكروي الواعي الناضج فكراً وممارسة وسلوكاً وأنه سيظل يلقي المزيد من المحاضرات والدروس حول تعامل النجم مع الكرة والمنافسين والجمهور والحكام فإذا طروحاتهم حول انتهائه واعتزاله تتولى إلى أقلامهم خجولة باكية. بين الدموع والمجد والمطر سوف يحضر ماجد عبدالله أخيراً.. سوف يتذكره الجميع أخيراً.. لقد نسيوه أو تناسوه طويلاً.. للدمع بقية في سنغافورة عام 1984م وبعد أن وضع ماجد عبدالله بصمة واضحة في مرمى الصين غادر الملعب محمولاً على نقالة وليس على الأعناق كما هو المعتاد.. كتب الصحفي السنغافوري (لاجين دران) يصف المشهد قائلاً: (الفارس الذي حقق الكأس كاد أن يغيب عن الحفلة فقد نسي اللاعبون السعوديون فارسهم ماجد عبدالله حتى إذا ما أوشكوا على الصعود للمنصة تذكره أحدهم أخيراً وذهب إليه حيث يتألم وحيداً في الظلام وعاد به محمولاً على الأعناق بعد أن غادر الملعب محمولاً على نقالة فور تسجيله هدفاً لن يخرج أبداً من الذاكرة الآسيوية). لكن الجانب الآخر من المشهد الماجدي لم يحضره هذا الصحفي وبالتالي فإنه لم يصفه ولو حضره لوصفه قائلاً: إن الفارس الذي ينساه الجميع في الفرح لا يتذكرون سواه في العزاء. أجل هذا هو ماجد عبدالله في البطولات صانع الفرح ولكنه المحروم من المشاركة بها.. يتعب.. يراوغ.. يسجل.. يصاب.. وفي النهاية يذهب الثناء والضوء لغيره ويبقى له الألم والظلام. هدف النهاية دائماً وأبداً يطلب من اللاعب أن يحاول التوازن بين عقله وعضلاته وبين فكره وركضه.. بين قراراته وحماسه ولكن معظم اللاعبين لا يفعلون ذلك فهناك من يلعب بعقله وهناك من يلعب بركضه وقد كان ماجد عبدالله لاعب عقل أكثر منه لاعب ركض. يقول فان باستن: لم ألعب الكرة كما لعبتها في بطولة أوروبا في السويد ولأنني لم أسجل فيها هدفاً واحداً حتى من ركلة جزاء جثم العالم كله فوق صدري. ويقول مارادونا: الفرق بيني في المكسيك 1986م وبيني في إيطاليا 1990م الأهداف. وهكذا لا يعترف الناس بالهداف إلا من خلال أهدافه إن سجل فهو الحاضر حتى لو نام معظم وقت المباراة وإن لم يسجل فهو الغائب حتى وإن ركض وراوغ طيلة وقت المباراة. ولهذا بقي المقياس الحقيقي لوجود ماجد عبدالله الأهداف.. بدأ كهداف في بطولة تبريز ويفترض أن ينتهي مساء اليوم بهدف في مرمى ريال مدريد كما فعل فهد الهريفي في بطولة أندية العالم. لكنني أرجو ألا يحدث ذلك من ضربة جزاء حتى لو كانت صحيحة فسيقال: إن مطرف القحطاني فعل ما فعله زميله سعد الكثيري لسامي الجابر أمام مانشستر يونايتد فأضحك الإنجليز على تحكيمنا وحكامنا. المجد المتأخر أراد الله سبحانه وتعالى أن يتأخر مهرجان ماجد عشر سنوات وكأنما أراد له المجد المتأخر فخلال هذه السنوات تطور الإعلام الرياضي لاسيما المشاهد منه وانتشر وأصبح الحدث في متناول الجميع على امتداد الكرة الأرضية وفي وقته إلى جانب تطور وانتشار وسائل الاتصال الأخرى وهذا يعني أن مهرجان ماجد عبدالله سيصل إلى كل مشاهد في الأرض وما كان ذلك سيكون لو كان المهرجان قبل عشر سنوات. كذلك من الناحية المادية فما سيحققه مهرجان ماجد كعائد مالي سيكون أضعاف ما كان سيحققه لو أقيم قبل عشر سنوات. وهناك مجد متأخر لماجد يتمثل في الجيل الذي بدأ يرتاد المدرجات من خلال العشر سنوات الماضية ولم يشاهد ماجد في الملعب فإنه سوف يشاهده مساء اليوم سواء في الملعب أو خلف الشاشة. يا شمس لا تغيبي لا أجد ما أقدمه لماجد وجمهوره كهدية بمناسبة مهرجان اعتزاله إلا أجمل ما قرأت عنه وازداد جماله إن كاتبه ليس سعودياً وليس نصراوياً.. أنه الكاتب المصري (عاطف حزين) بعنوان يا شمس لا تغيبي: ماجد عبدالله ليس مجرد لاعب كرة الذين تعلقوا بقدميه في الملعب عشقوه الذين عرفوه خارج الملعب صادقوه الذين حاربوه بأقلامهم.. رفعوه والذين لم يعرفوه خسروا نصف حياتهم بخيل في ابتسامته مسرف في أهدافه يجلد بهدوء ويمطر في صخب من يحبه يملك مليون مبرر لحبه ومن يكره جوهرة العرب لا يملك إلا الحبر والورق حاولوا التقليل من شأنه فتحولوا إلى دخان بحثوا عن فارس يقاسمه الأضواء فانطفؤا قارنوا بينه وبين الصغار فصغروا حاربوه بشائعتهم فخسروا شرعوا أقلامهم الخشبية فرد عليهم بقدمه حفروا له قبراً فتلقوا العزاء في أنفسهم قالوا لن يعود فعاد وأسكت الحاقدين ماجد شمس وبريقه ما زال يشع أهدافه أغان تتردد دون ملل صولاته أناشيد تستفز الحماس وجوده يبعث على الثقة غيابه يعقبه اليتم يسأله العشاق ألا يغيب ويسأل الحاقدون عن موعد اعتزاله السطر الأخير يا لهذا النجم الذي يتربع على قمة الضوء ويمتطي سنام الذكر ويبلغ منتهى الصدى حضر أو غاب.. لعب أو أصيب.. اعتزل أو لم يعتزل.. أنه بذاته إنجاز من إنجازات الكرة السعودية ورمز من رموز تطورها وظاهرة من ظواهر قفزتها.. ومن كان ذلك لا تمزق مجده عضله ولا تصيب وجوده إصابة ولا ينهيه اعتزال.