صحراء مكة اللاهبة غدت مسرحا للعذاب، الوجوه البشرية تحمل خلف أقنعتها أنياب الوحوش،كوكبة المؤمنين المستضعفين تساق إلى ميدان الفتنة،وبلال الحبشي يتحدّى سيده أميّة بن خلف ،{أحد أحد} والزبانية يراودونه عن كلمة التوحيد ،وهو متشبث بها،يرى فيها حريّته وكرامته،ويجد في صدقها عتقه من النّار،ويستصغر الثمن الذي يقدّمه فداء لها،وأو بكر الصدّيق ينفق ماله في شراء العبيد الضعاف ،ليعتقهم ويدفع عنهم اذى المشركين ،وأبوه يعجب ممّا يفعله ولده{يابني أراك تشتري بمالك الضعفاء فلو انك اشتريت رجالا أقوياء يذودون عنك؟فيقول الصدّيق :يا ابتغاه إنما أبتغي بذلك وجه الله} . والرسول صلى الله عليه وسلم لا يجد إلّا الدعاء لهم وتثبيتهم على الحق وسوق البشرى إليهم بالجنة التي وعد المتقون،يحتمل معهم أذى الكفّار واستهزاءهم به وبدعوته ،وقريش تغلو في عداءها ،وتعلو في تفرعنها ،والأمر الإلهي ماض ،أنذر وبشّر، وثبّت واثبت،وبادر بالدعوة كل من تلقاه ،فالرسالة حق والمرسل حق وانت على حق و النصر للحق ،فماذا يرجوه الباطل بعد؟أيام وتدول دولته وينتهي زيفه،فاصبر يامحمد لحكم ربك،وامض فيما اقامك فيه بثقة واطمئنان . وقريش ترسل ابا طالب ليفاوض النبي صلى الله عليه وسلم،ليفاضل بين المال والجاه والسلطان والملك والنعيم ،وترك ما جاء به من أمر هو في عرف الجاهلية فرقة واستخفاف بعقول الآباء وديانة الاجداد! مساومة هي في عرفهم عادلة ،ولكنها في عرف الرسول والرسالة لا تستحق الوقوف أمامها، أيتها الدنيا الزائلة ،تألقي ببريقك الزائف ،وأشعي بشموسك المخادعة ونادي حتى لا يبقى لديك صوت ينادي ،فأنت عند محمد صلى الله عليه وسلم هباء منثورا ،وانت في نظره مصيدة مهلكة ،وبريقك لا يصل إلى عينيه الشريفتين ، وكلمات عمه أبي طالب تلامس سمعه ولا تجد القبول {يابن أخي أبق عليّ وعلى نفسك ولا تحملني من الامر ما لا أطيق}وتنطلق الكلمات الثابتة الرافضة للمساومة تحت أي ظرف وفي اية حال،{يا عم ،والله لو وضعو الشمس في يميني والقمر في يساري،على ان أترك هذا الامر حتّى يظهره الله او اهلك فيه ،ما تركته} ! الكلمات أمضى من حد سيوف الباطل،واثبت من رواسي مكة،وأعمق وأدق وأصدق ما تكون الكلمات،إنه يدرك ان الموت دون الإسلام أحد الخيارين{النصر أو الموت} ولا خيار ثالث بينهما ،وقريش ترى في هذا الرد إهانة وتصغيرا لشأنها وآلهتها الخرقاء ،وجاهليتها الرعناء،فتصب جام غضبها على محمد وأصحابه، وتطال عنجهيتها آل هاشم جميعا مسلمهم وكافرهم ،،وتحاصرهم في شعب بني هاشم رجالا ونساء صغارا وشيوخا مريض ومعافى ،حميّة لأصنامهم ،وذودا عن مصالحهم الظالمة ومبادئهم الجائرة ،وفي جوف الكعبة تعلق وثيقة تقطع فيها الارحام ،ويقاطع فيها من انحاز إلى النبي صلى الله عليه وسلّم ،يضيقون عليهم في طعامهم وشرابهم ومعيشتهم، في أعلى درجات الضنك والمشقة والإيذاء . ثلاث سنوات عجاف مرّت على هؤلاء الصابرين ،وحملت في طيّاتها للمصطفى صلى الله عليه وسلم ،ولأصحابه ،من الاحزان والشدائد ما يوهن الصخر ،ويضعف الجبال ،ولكنه الإسلام،تهون من أجله الارواح،وتنصب في سبيله الأبدان دون منّة ولا شكوى، فالحبل الموصول بالله لا يسهل قطعه، والقلب المعلّق بجنة عرضها السماوات والارض لا يقبل الأقل ،والثقة بالرب الجليل العظيم لا تهزها مواقف ابتلاء مصدرها كافر، هيّن على الله محتقر عنده، ويمضي ركب الدعوة في تبليغ كلام الله للخلق ،وتنتهي المقاطعة ،وتمزّق ، ويخرج المحاصرون كأشدّ ما يكون الثبات والتصميم على انفاذ كلمات الله ولكن المشاعر الرهيفة والقلوب الشفيفة تتفاعل مع أحزان الفقد والفراق ،وتنتابها أحاسيس الاسى واللوعة ،المنظبطة بالصبر والرضى واليقين، فهاهو ابوطالب، الدرع الذي التف على الرسول صلى الله عليه وسلم يحميه ويذودعنه، يرحل عن الدنيا ،ولا تلبث خديجة ان تودّع الزوج النبي ،الذي حملت معه العبء ،وأعانته بمالها وجهدها وحنانها وفيض مشاعرها الحانية،وتلحق بالرفيق الأعلى ،مبشّرة ببيت من قصب ،لا صخب فيه ولا نصب ،ويحزن النبي صلى الله عليه وسلم لموتها ،ويظل يذكرها حتى لحق بربه ،في حالة وفاء عظيم،لا يقدر عليه إلا العظماء،ولكنه لا يتوقف عن حمل الأمانة الربانية ، ويستمر بالدعوة الى الاسلام، وتتمادى قريش في غيّها وظلمها ،ويصبح البحث عن فضاء أوسع وأرحب لدعوة الله ضروريا، وتبدأ مرحلة الخروج بالدعوة إلى خارج مكة ،فاين تكون المحطة القادمة،وما الذي ينتظرك يارسول الله فيها،عليك أطيب صلوات الله الطائف تلك البقعة الجميلة في جزيرة العرب ،ببساتينها الغنّاء،وعناقيدها الدانية،كانت مقصد المصطفى صلى الله عليه وسلّم ،قصدها ليعرض على أهلها الإسلام العظيم،وفي قلبه الإشفاق على أهلها من النار والعذاب ،فقابلوه بالرفض والتسفيه والجبروت،خلفه السفهاء يرمونه بالحجارة ،ورفيقه المشفق المحب،زيد بن حارثة،يتلقى ما يستطيع من الحجارة عنه،ويفتديه لو استطاع بالنفس والروح،ويلجؤه ،جبابرة الطائف وزعماء الجهل فيها إلى بستان ،وهناك في ظل السكون ورحابةاليقين،وانطلاقة الروح الملهوفة على الرضى ،والحريصة على نجاح المسعى،وفي غمرة مشاعر التذلل للإله العظيم،والاستكانة الكاملة والانقياد التام لأوامره،والتصميم على الثبات،وطلب الرضى، وحسبه الرضى، ينطلق اللسان بلغة الروح والوجدان ،يناجي ربه{الّلهم إليك أشكو ضعف قوّتي،وقلّة حيلتي،وهواني على النّاس،يا أرحم الراحمين انت ربّ المستضعفين وأنت ربّي،إلى من تكلني؟إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدوّ ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي،ولكن عافيتك هي أوسع لي،اعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ،من أن تنزل بي غضبك، أويحلّ عليّ سخطك،لك العتبى حتّى ترضى،ولا حول ولا قوّة إلاّ بك} ويعود الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة إلى مكة،ولكن مكة الحبيبة الأحب ،والبقعة الأرحب، تضيق به،ولا يمكنه دخولها إلاّ بجوار أحد الكبراء،وزيد مشفق على نبيه الحبيب،كيف تدخل عليهم يارسول الله وهم أخرجوك،فتشرق البشارة من بين ثنايا الانكسار{يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا،وإنّ الله ناصر دينه ومظهر نبيه}إنّها الثقة الكاملة ،بصدق ونبالة وخيرية ما يدعو إليه،ويدخل النبي صلى الله عليه وسلم وزيد مكة بجوار المطعم بن عدي،ليبدأ فصل آخر من التبليغ والإيذاء والرفض والقبول والرّحيل والاحتساب،فدعوات الإصلاح والتغيير دائما ستظل تصطدم ،بغوغائية الفكر المنحرف،وستبقى على حرب دائمة ،مع روّاد متاهات الضلال، وأنصار المصالح والأهواء المتمثلة في فئة قليلة متنفذة ،كانت وستبقى أبد الدهر لا ترى الحقيقة إلاّ بمنظارها القاتم ،ولا تحتكم إلّا إلى محكمتها الغاشمة ،ومصالحها وموروثاته الباطلة الفاسدة هي وحدها ما يستحق البقاء،وتستمرّ معركة الحق والباطل ،إلى ان يرث الله الأرض ومن عليها .