أستمع إلى زفرات وآهات من كبار السن وأرباب الفكر الأصيل، تعقبها مقارنات وذكر للمفارقات بين الفينة و الأخرى، كلما تنغصت بهم الحياة، لعل ذلك يكون مدعاة لتسلية أنفسهم بذكر ذاك الزمان. أتعجب كثيرا من إطناب أحدهم عن مدح تلك الفترة الماضية، وحشد كثيرا من المقومات الأصيلة والدعائم الركيزة لمجتمع تكتنفه الطهارة ويتسم بالحب والشفافية. لا أخالك أمرا أيها القارئ الكريم، أن تلك الفترة لم يمر عليها كثير من الزمن ولم تكن مدبجة بسير سابقة، بل شمل كثير من أبطالها مازالوا يتنفسون عبق الحياة. ثلاثون أو أربعون عاماً خلت لو أعيد فيها الفكر قليلا، لوجدنا مجتمع تسود جوانبه البساطة، نعم البساطة بكل ما تحملها تلك الكلمة في طياتها من أسرار ومعانٍ. إنني أتعجب كثيرا حينما أستمع إلى قصص تروى عن تلك الحقبة السالفة، الجار يعاون جاره في دكانه وحياته، يوصل نيابة عنه أبنائه، وتأتي الأرزاق إلى دار فلان فيقتطع منها جزء لجيرانه بقدر جزئه الذي وضعه في داره، يوعك أحدهم فيستأذن الجار أهل الدار بالدخول لحمله إلى المشفى، تأتي النوائب -أجار الله الجميع- فيهب أهل الحارة من كل فج بالوقوف صف واحد وما منهم من يحيد، يطمح أهل الدار بغرض لا يحققه أحد منهم بحكم قلة المعطيات عندهم فيبعثون الابن الصغير يخطو ويحبوا إلى جارهم العم فلان ليبلغه أنهم بحاجة إلى كذا فما هي إلا برهة والأغراض أمام سدة الباب، تصنع المرأة طبخها فينقص عليها بعض لوازم الطهي فتبعث بابنها الصغير إلى جارتهم أم فلان لتطلب شيء يسير فما هي إلا لحظات والابن قافلا إلى داره حاملا زنبيله، يعلن موسم زفاف أحد أبناء الحارة، فيجتمعون جميعهم فيعبدون الطريق ويزينون الشوارع ويعملون كخلية نحلة يساعد بعضهم الآخر، يسود أهل الحي جو الفرح لفرح أحدهم وكذا في المآتم والأتراح. ولكن، جاءت المدنية فهدمت بمعولها الكثير من تلك الصفات، ووسمت من يحملها بالرجعية وعدم الانقياد لتيار الرقي والانفتاح، إنني لا أُحمّل المدنية الجزء كله بقدر ما يشاطر ذلك الجزء أبناء ذلك الجيل الذي أباح لعقله ما ليس بمباح فضرب ضرب عشواء هنا وهناك، فساعة يمدح وساعة يقدح وإلى الله الولي نجأر. أقبلت الحياة على الكثير بخيلها ورجلها فأزاحت تلك المسلمات التي عاشوا في ظلها، وتتنفسوا من عبقها، فبدأ ذاك يرى أن ما نحن فيه من تخلف هو نتيجة حتمية لتلك الصفات التي كانت مقررة إبان تلك الحقبة، وآخر ينعق بأن تلك المقومات والمبادئ لم تعد صالحة لهذه الفترة مستشهدا بالغرب وما آل إليه من تطور وتقدم وانفتاح. ولسنا بالذي يرمي الغرب بكل قبيح مهمشين الجوانب الإيجابية التي يحملونها، كما أننا لسنا من أعداء التقدم والتطور كلا وألف كلا بل نطمح إلى الرقي والارتقاء بضوابط شرعت بوحي السماء، وقد جاءت الشريعة كاملة مكملة كافلة للمجتمع بأسره زمام الرقي والارتقاء مقررة خاتمة ذلك السبيل إلى جنات رب البريات. وشاهد ذلك الانحلال من تلك المسلمات فئام من حملة الأقلام في صحائفنا ومنابر إعلامنا من يُسمون ما كان عليه الآباء والأجداد من قيم أصيلة ومبادئ شرعية قويمة بأنه تخلف ورجعية مقيتة، فهم يطمحون إلى مسايرة الغرب بكل ما دأبوا عليه وساروا، وإن وردوا المهالك نكن نحن أسبق منهم إلى قاعها، فحملة الأقلام الساقطة يسعون إلى خروج المرأة من ذلك الجلباب الطاهر العفيف إلى الانكشاف والتعري والمخالطة وكل قبيح عياذ بالله، وآخرين يسمون تلك الطاهرة التي كانت تمر بين الأزقة تحمل عبائتها السوداء أغبرة الجدران من شدة حيائها والتصاقها بحافة الطرقات، أن من هذه صفاتها متخلفة وليست بالفخورة بجمالها وأناقتها ومن ذلك القبيل. فمتى يفقهون هؤلاء ما هم فيه؟ ومتى يستشرفون لمستقبلهم وما يعقبه ذلك الإتباع من ويلات وتبعات؟ ومتى يستبصرون أن ما يقودون به الأمة وما يطمحون لتحقيقه أنه مرتع وخيم ومآل سحيق لا تحمد له عقبى والله المستعان. إنني أدعوا من أنغمس في ذلك الإتباع المزيف ومن يَسِم تلك الحقبة بالتخلف والرجعية أن يعودوا إلى صوابهم وينظروا ما حققه الغرب مما يسعون إليه، وأن يعلموا بما هو من مقرر عندهم وبلا شك أن الفلاح بإتباع الحق و الشرع، وقد كفلة الشريعة ذلك الحق بلا شك. إنها ليست نظرة تشاؤمية لما نحن فيه، بل مازالت تلك الرؤوس الكريمة الطاهرة ترتفع بقيمها وتحقيق مبادئها في أرض الواقع، ونطمح إلى يرتفع الجميع عن كل وضيع ويسددون المساعي في كل ما هو سامي وعالي. وبعد فما سبق أحرف دونها من لم يعاصر ما فات وكله أمل بأن يعود الجميع إلى تلك البساطة السمحة وتلك الصفات والخلال الكريمة، وأن يسود الجميع رضا رب العالمين، وأن نحيا حياة بهدف، ونعيش لتحقيق ذلك الهدف، وأن نمد يد العون لكل أحد، كل بقدره واستطاعته لنحقق الحياة السامية ونرتدي تلك الصفات الطاهرة ونرقى ذرى المجد، ويا فلاحنا إن حققنا ذاك، وسنحققه بلا شك ، لكن متى؟!!.