( الدقة السابعة ) ( صفير الرياح في الخارج يشق سكون الليل ، يعبث بكل ما يعترض طريقه ، يتلاعب بحاويات القمامة الفارغة ، تصطك بالأرصفة ، أمواج من البرد القارص تتوغل من خلال القضبان الحديدية لشباك زنزانتنا الضيقة ، تلاحقنا ، تفترسنا ، تغرقنا بين دوامات برودتها الرهيبة ، يسرى البرد بجسدنا الواهن ، يتوغل فينا ، تتجمد أطرافنا ، أحاول كبح جماح السعال الذي ينهش رئتاي ، و لكن لا فائدة ، أفقد الإحساس بأصابع قدمي التي تقيحت ، أخاف حتى مجرد النظر إليها من هول المشهد ، ليست لدي الشجاعة الكافية كي أتحسسها بيدي ، أنظر إلى رفيقي الذي سقط عليه بقعة من ضوء القمر ، أراه منكمشا داخل نفسه ، يجلس و قد ضم بذراعيه ركبتاه إلى صدره ، حاول المسكين إغلاق كل المنافذ في ملابسه البالية حتى لا تتوغل البرودة من خلالها ، كلما هم الدفء يداعب جسده الضعيف ، افترسته موجة أخرى أشد برودة فأخذ يرتجف و يرتجف ، صوت اصطكاك أسنانه التي تكاد تتكسر جعلني أرتجف بشدة ، حاولت فرك وجهي و أنفي بشدة لعلها تمنحني شيئا من الدفء تحرش بسمعي قرقرة معدته الخاوية ، يومان مرا علينا لم نذق فيها طعاما ، ألقوا بنا منذ أيام بهذه القلعة ، جعلوها معتقلا لكل من يخالفهم الرأي ، يطلقون عليها (الكابانا)، لم نر أحدا منهم منذ أيام ، اللهم إلا زوار الليل ، يأتون بمشاعلهم الشاحبة ، يسحبون واحدا منا فلا نراه ثانية ، يختفي إلى الأبد ، أعادتني صرخات زميلي ثانية ، رأيت شبحه يقف من وراء قضبان زنزانتنا ، يصيح ) أيها التعساء ، لقد انتهينا، مصيركم إلى الإعدام لا محالة، ليحاول كل منكم التخلص من حياته بنفسه بأسرع وقت ، فما هي إلا أيام من العذاب و الألم و الشقاء ، بالله عليكم ماذا تنتظرون ؟ لقد اعتبروا كل من يعارض الثورة خائنا لابد من تصفيته ، ألا تعرفون من الذي تولى الإشراف على هذا المعتقل ؟ لقد نصبوا عليكم هذا الأرجنتيني المتعجرف الكاذب . ( صرخ أحد المعتقلين في نهاية الممر ) نعم صدقت ، إنه ذلك السفاح الأرجنتيني الذي سيخطفكم كالحداة فرخا تلو الآخر ، لتنالوا حتفكم دون محاكمة ، لقد فعلوا هذا برفيقي أول أمس ، سحبوه بينما نحن واقفون ، و أمام أعيننا و دون محاكمة أطلق عليه هذا الأرجنتيني الرصاص بدم بارد ، أطلق عليه الرصاص و كأنه يتناول كوبا من الماء . ( صرخ آخر ) و ماذا فعلنا لنعتقل بهذه القلعة و نعدم بهذه الطريقة ؟ أنت من أعداء الثورة أيها المعتوه ( أخذ يقهقه ) ها ها ها . أي أعداء ؟ أنا لم أحمل سلاحا قط ، و لا أنا من حاشية العهد البائد ، بأي حق يقتلني هذا الأرجنتيني ؟ لأنك من المعارضين السياسيين أيها التعس . أقول لك لم أحمل سلاحا قط . لا فارق عند هذا السفاح سواء كنت تحمل سلاحا أو لا ، المهم أنك معارض سياسي أيها الحقير . ( فجأة سمعنا صوت دقات أحذية عسكرية تقترب ، صمت خيم على المكان ، صوت الدقات أخذ يعلو اقترابا رويدا رويدا ، أخذ الرعب يرخي قتامته علينا واحدا تلو الآخر ، جحظت العيون ، وجمت الوجوه ، دقات قلوبنا أخذت تتزايد باقتراب الخطوات شيئا فشيئا ، ضوء المشاعل التي يحملونها تعلو رويدا رويدا ، التصقت أنا و زميلي بإحدى زوايا الزنزانة الداخلية ، اختلطت أصوات دقات قلبينا المتسارعة ، تقاذفتنا شكوك الرعب ، توقف صوت الأحذية أمام زنزانتنا ، يااااااااااااااا الله ، أشباح الرعب توقفت وراء قضبان زنزانتنا ، اغتصب سمعنا صوت أجش ، : أنت هناك . ( ترددت أنا و زميلي في الإجابة ، عندها سمعنا عربدة المفاتيح بالباب ، اختبأنا أنا و رفيقي داخل بعضنا البعض ، اقتربت أشباح الرعب منا أكثر فأكثر ، أغمضت عيني ، أخذت أتمتم ، ( يا لطيف ، يا لطيف ، يا لطيف ، يا لطيف ، يا لطيف ) أحسست بهم يسحبونني بمنتهى العنف ، وقع قلبي بين قدماي ، أخذت أصرخ ، ( يا لطيف ، يا لطيف ، يا لطيف ) أحاول فتح عيني ، و لكن لا أستطيع ، ما هو إلا كابوسا و سيذهب بإذن الله ، لربما فتحت عيني فوجدتها الحقيقة ، حاولت استبيان الحقيقة بسرعة ، لا وقت هناك ، فتحت عيني فإذا بزميلي هو الذي يجذبني معه ، وجدت أشباح الموت و قد غرسوا مخالبهم بأقدامه يجذبونه ، لكنه تشبث بقدمي بكلتا يديه ، أخذ يصرخ ) لااااااااااااا ... لم أفعل شيئا ... لماذا تأخذونني ... لااا ... ( أخذوا يدقون بأحذيتهم على يديه ليتركني ، لا فائدة ، غرس مخالبه بلحمي ، أخذوا يجذبونه بينما أخذ هو ينهش لحمي بأظافره و يصرخ ) لم أفعل شيئا .... حاكموني أولا .... أقول لكم ؟؟ حاكموني ... إذا ثبت أنني مدان فأعدموني .... لاااااااااااا لن أساق للموت هكذا ؟ لا و ألف لااااااااااا ... ( عندها غرس أحدهم مشعله بيده التي كبلتني ، عندها فقط أخلى سبيلي ، سحبوه خارجا ، أغلقوا باب زنزانتي خلفهم ، أخذ صراخه يتباعد شيئا فشيئا ) لاااااااا .... اتركوني ...... بماذا ستبررون قتلي ؟؟ هناك أطفال يصرخون منتظرين عودتي بالطعام .... لا عائل لهم إلا أناااااا .... لاااااااااااااااا .... أرجوكم .... لا يمكن .... مستحيل .... غير معقووووووووووووول ...... ( أخذت أطرافي تصطك ببعضها البعض من شدة الرعب ، أخذت الصورة تتلاشى بعيني ، دارت الدنيا من حولي ، لم أشعر بشيء بعدها )