(حسن رحماني) ها أنا ذا أرتدي غيابك للمرة الأولى، أجرب وجع الملح حين يخونه الماء، أصغي لانكسار الناي حين يخذله الصدى، أطفف كيل الحزن كي أعبر بوابة الفقد دون أن أنصت لحشرجة اللهفة. ها أنا ذا أنفض الانتظار عن كتف الأيام، وأضمد ساعد الليل بالمضي نحو الغد قبل أن يشتد نزفه. ها أنا ذا أمضي كقارب مثقوب لا يشفع له التسبيح. لا أعلم كم من الحزن سأنفق وأنا أجمعك من العناوين الكثيرة التي خبأتها في ذاكرة العصافير، وأضعت بعضها في الطرقات البعيدة الخالية من الأرصفة، والمواعيد، ومقاعد الانتظار. والتي أضعتك بها عمداً دون أن أرسم خارطة لها لأمنح الصدفة حقها في اختيار المواعيد. سأبدو خائفاً ومرتعشاً وأنا أجمعك من أحلام الغرباء، ومن صناديق اللغة. أعلم كم هو قاس ومخجل ذلك الخوف.. لكني سأفعل !! ما يربكني حقا كيف أستعيدك من حناجر الغيم، ومن قناني النبيذ، كيف أستلك من رائحة التوت البكر قبل نضوجه، كيف أغسل زجاج أيامي من حضورك دون أن أكسره، كيف انتزعك مني دون أن أفقدني. ركوة القهوة خالية هذا الصباح، والشمس عاجزة عن طرق نوافذ النهار، والحياة مازالت مكدسة داخل أقبية الليل احتجاجاً على خارطة المسافة والسور، وأنا وحدي فقط من يجول الأرصفة النائمة، أتوشح موالا مكسوراً اختلسته من بقية الليل خوف أن ينبت الحنين فجأة وأتعثر به. ظل وجهك يسافر عبر أوردتي دون توقف.. يسكنني.. كتعويذة، كقهوة، كلعنة، كأغنية، كوجع، ظل وجهك كدعاء أمي يصحبني دائما دون أن أشعر. أنت وحدك فقط من كانت تحصد السنابل الحمراء من قلبي في مواسم التعرق، لتعيد لي الأجنحة المسروقة، وتلقنني الدرس الأول من رقصة الملائكة. أنت وحدك فقط من كنت أشاطرها الصلاة. مذ أويت إلى قلبك خلعت ذاتي وبدأت أغزل لي ذاتاً أخرى لا تضيق بي وأنا أقتفي خطاك الواسعة، حاولت أن أنصهر فيك كثيراً كي أنسرب في جداولك المتعرجة، ظللت أوسع الأرض بالغفران لتتسع لآخر ذنوبك، وحتى حين كانت السماء تبصق غضبها في وجه أيامي كنت أجتزئني من تلك الأيام لأقدمني بين يديك نقياً من شوائب الحزن. وحين يسكن كل ذاك القهر، أظل أخترع النهايات المبهجة وأضعها تحت وسادتي قبل النوم. أتلفت في هذا المساء فلا أرى إلا تجاعيد المسافة، وجفاف الطريق، وأرى رحيلك يتلصص على سنبلة القلب ينتظر انحناءها. أنا لا أخشى الموت يا سنبلة القلب، ولكن لا تهيني موتي بالصمت. حين أموت في قلبك.. أكرمي موتي بنصف فجيعة، وتذكريني بنصف أغنية، أولمي فقط للأمنيات الكبيرة، والعناقات الموؤودة، وابدئي الرقص. حين أموت في قلبك.. سيخونني الظل كعادته، ولكن عديني ألا أبقى حينها جثة بلا ظل؛ يطحنها الفراغ ويقتاتها الانتظار. حين أموت في قلبك.. أخرجيني؛ ضعيني خارج أسوار قلبك، قبالة الصدق، بجوار الأحلام النائمة، وعودي دون أن تلتفتي، سأتولى أنا بقية الحزن. حين أموت في قلبك.. سأغفر خيانة الريح والأساطير، وسأحمل إليك بقية الفرح وأهاجر للسماء وحدي فتلك آية الرحيل. حين أموت في قلبك.. سأدرك أن النبي الآثم عاد ليكمل رحلته.