لن أنسى ذلك الصباح الذي قادتني فيه يداي لاكتشاف «محطة إذاعية» جذبتني بأسرع مما توقعت كانت المحطة كالمطر الذي يسقط على الأرض فتبلل القلوب والجسم والشوارع والأشجار ونوافذ السيارات لتغدو الحياة جميلة وتغدو القلوب نقية.. كان صباحاً عذباً.. كنت أقود عربتي في «شوارع كانسس ستي» التي أولهت فوقها في هذا اليوم السماوات الرمادية وانصبت الشمس منها من بين الضباب كالإكليل النحاسي السائل.. كان الفجر يُنير شرفات المنازل وتيجان المباني التي تبدو عليها آثار الرطوبة والقدم كنت أتأمل المباني وضوء الصباح والشجر وأفتش بين المحطات عن أغنية تروق لي فجأة توقفت عند صوت«natalie cole» تنادي على من هو بعيد «miss you like crazy» كيان أنثوي في حنجرة.. حب وانكسار وغياب وحنين وهجر وشوق للقاء يخرج الصوت من فمها كبراري النقاء بعفوية من يبحث عن فقد فتعبث بأوتار الفؤاد وتترك في الروح أوجاع الكلام المغنى.. بعد انتهاء الأغنية اكتشفت أن تلك المحطة موجهة «للمسنين» لتكون لهم عالمهم من الونس والألفة كان قلبي ينبض وأنا أتابع تلك المحطة الإذاعية كأنما أراد أن يفتح ممراً في صدري ليهرب منه تجاه ما أسمع وأتلقى فالمحطة كانت كالدمية الروسية التي تحتوي على عدد لا يحصى من الدمى المتشابهة ولكنها تختلف في الحجم والشكل والألوان كنت أستسلم لواحة من المشاعر المبهجة وأغوص في عالم راقٍ حميم يُمثلني يجعلني أكثر واقعية من الهواء الذي أتنفسه.. تركت نفسي تنصاع لذلك الإغراء كان المذيع يتحدث عن كتب ذات رائحة استثنائية تكلم عن رواية «ظل الريح» للكاتب الإسباني «كارلوس زافون» تحدث عن الشخصيات المتشابكة في الرواية كان يتحدث بروح المكتشف الذي يتوغل في غابة أمازونية لا تصل الشمس إلى أرضها لكن المذيع يصلها بروح المكتشف الحقيقي كنت أحس وهو يتحدث عن الرواية أنه يحمل بيديه قناديل إضاءة ومنجل لتفادي الأغصان.. لوحة سحرية أستعرضها في دقائق ينتقل بعدها لزميلته المذيعة التي تشاركه البث والتي قضت نهاية الأسبوع في قرية يعيش فيها «الأمش» سلطت الضوء على هذه الطائفة المسيحية التي تتبع للكنيسة «المنونية» والتي تعيش بأسلوب بدائي بعيد عن المدنية الحديثة بجميع صورها وكيف أن لهم حياتهم الخاصة التي لا تتدخل فيها الحكومة الأمريكية البتة حيث سنّوا لأنفسهم القوانين الخاصة بهم.. ذكرت كيف أن البنات البالغات والنساء يلبسن زياً محافظاً جداً بأكمام طويلة ولباس فضفاض طويل وكيف أن غطاء الرأس الأبيض يعبّر عن أن من ترتديه متزوجة والأسود دليل على العزباء والرجال لا يحلقون لحاهم ويحفون شواربهم ويغطون رؤوسهم بالقبعات الطويلة السوداء ويحرمون التصوير والموسيقى.. واسترسلت كيف أنهم لا يستخدمون الكهرباء ولا السيارات ولا النقود الحكومية الورقية إلا في الحالات الطارئة وكيف أن مجلس الفتوى لديهم أصدر فتوى مؤخراً بجواز أن يركب «الأمشي» السيارة للضرورة فقط ما دام أنه لا يقودها وكيف أنهم يستخدمون عوضاً عن ذلك العربات والخيل وأنهم يحرمون السلاح بجميع أنواعه والعنف والكراهية لوحة كاملة عن طائفة تعيش في الظل سلطت المذيعة الضوء عليها من خلال رحلتها الأسبوعية لقريتهم استعرضت فتنة الأماكن والقناديل القديمة وهي تضاء في المساء وبين النواعير المنتشرة في المزارع.. كان هناك سؤال من مستمع يرغب في العمل استعرضت له المحطة أماكن العمل والأجر وطبيعة العمل وذكرت له إمكانية العمل في أماكن وجمعيات خيرية دون مقابل في المنطقة!! محطة مضيئة ضياء الحياة حضن دافئ للمسن ومحاولة سامية بارعة لإخراج المسن من صمته ونسيانه المحطة فيها النصيحة الدينية والنصيحة الاجتماعية وتقديم الحلول القانونية واستضافة أمهر الأطباء في أمراض الشيخوخة بين كل عبارة وجملة وحديث يستدرجون من حين لآخر وبلطف ناعم مقطوعات موسيقية حالمة وبعضها موسيقى تصويرية لأفلام خالدة ك«الدكتور زيفاكو» لعمر الشريف وما «تبقى من اليوم» لأنتون هوبكنز يستعرضون الفنانين ومشوارهم الفني وأفلامهم.. نجاحهم وزواجهم وانكساراتهم أفول نجمهم الحسّ الساخر جزء من هذه المحطة المتنوعة حيث تتناسل الحكايات الطريفة وتتكاثر المواقف الساخرة.. محطة نشأت لبشر يفترض أنهم ساكنون كبحيرة راكدة إلا أنها في الحقيقة صحبة لا تمل.. على امتداد لحظات البث التي كنت أستمع إليها حتى وصلت للمكان الذي أنشده كنت مشدوداً كقوس متلقياً ذلك التواصل الممتع تحدثت مع رفيق متقاعد عن المحطة ليفاجئني بأن من أنشأ هذه المحطة مؤسسة إعلامية أمريكية مشهورة بالمشاركة مع جمعية المتقاعدين الأمريكان وهم من يقومون بتمويل ميزانية المحطة بالكامل خطر في بالي وأنا أستمع إليه أن أطرح الفكرة هنا منادياً الشركة الإعلامية الذائعة الصيت والانتشار والتي صرفت دم قلبها على «رامز» الذي يلعب بالنار والفلوس بشكل سادي أن تكفر عن هذا الخطأ الإعلامي الفاحش بتبني إنشاء محطة مشابهة «للمسنين» عوضاً عن الاستمرار في اللعب بالفلوس والنار وأعصاب البشر!!