لا تتوقع أن الأبناء الذين تربوا على نوع من المحافظة المتشددة سيتوقفون عند هذا الحد، فهم إما أن يخرجوا من هذه الدائرة تماما أو أن يسعوا في يوم للتفوق عليها وهذا هو البعد الأخطر. فيما تبدو الحياة ويبدو المجتمع أكثر انفتاحا تصر بعض العائلات ذات التربية الملتزمة على نمط واحد وقديم من تلك التربية لا زال يدور في فلك المحرمات التي بالغ المجتمع يوما في تحريمها على نفسه، وتتم تنشئة الأطفال على ذلك وبرقابة صارمة وتخويف مفرط بل وبعقوبات قاسية أحيانا. تغير تعريف (الصلاح) في المجتمع السعودي، بعد أن ظل لسنوات مرتبطا بالشكل الخاص بالمتدين التقليدي، فالابن الصالح هو الذي يبكر لكل صلاة ويقضي في المسجد وقتا أطول وليس له أصدقاء ولا يستمع للأغاني ولا يشاهد في التلفاز إلا قنوات محددة ولا يلعب كثيرا وأي نشاط آخر يقوم به يحظى بمراقبة شديدة تصل إلى درجة الشك والتتبع من قبل الآباء والأمهات الغلاظ الأشداء. وهذا النوع من التربية يأتي مصحوبا بلغة موازية له تعتمد على مزيد من الحدة والتخويف تبدأ منذ الصغر فيستسلم لها الطفل بشكل فطري، لكنه حين يكبر يجد أنها قيود يقنع نفسه أن الالتزام بها هو الصواب وفيه الأجر والثبات. تقوم بعض العائلات على نمط تربوي متشدد استسلمت له الأم في سنين الزواج الأولى (بالتأكيد أن اختيارها كزوجة تم وفق معايير متشددة أيضا) والتزم به الأبناء في طفولتهم بشكل عفوي وفطري رغم أسئلة الصمت التي تدور في أذهانهم حين يقارنون أنفسهم بأقرانهم. لم يشهدوا في بيتهم احتفالا ولا فنونا ولا نقاشات ولم يسافروا ولم يختلطوا ولم يفاجئهم أحد الأبوين بهدية وتخلو غرفهم غالبا من كثير من الأجهزة والألعاب البريئة، وهكذا يتحول الأب المتشدد إلى ماكينة إنتاج لجيل جديد من المتشددين. بعد أن يصل الأبناء إلى سن ما بعد المراهقة ينقسمون بين من يتمرد على تلك التربية وعلى ذلك النمط الذي أخذ يشعره بشيء من الغربة وسط أقرانه وهذا الصنف يلاقي في حياته المبكرة من الشقاء ما يلاقيه، فكيف لوالد يتحدث في الجلسات وفي المنابر وبين أصدقائه أو على مواقع التواصل الاجتماعي يوميا بعداء المخالفين والتشنيع عليهم والدعاء عليهم، كيف يسمح لابنه أن يخرج عن تلك الدائرة وأن يخالف تلك الأفكار، وتشهد بعض العائلات حالات من العنف تدور حول صدمة الأب لأن ابنه يمارس سلوكا عاديا فيما هو يراه من المحرمات. النوع الثاني من الأبناء هو الذي ينساق طائعا لتلك البيئة ولتلك الأفكار ويتبناها أحيانا طمعا في السلامة ليصل بعد ذلك إلى نسخة مكررة من تلك الأفكار وإلى شاب يجد أن من البر والإحسان لوالده أن يصبح أكثر منه محافظة والتزاما (أي تشددا)، وما يلبث أن يتجلى ذلك في سلوك الابن الذي قد يصل يوما إلى الإنكار على أبيه. تتحدث كثير من المواقف تجعل الأب يميل إلى التهدئة ولكنها تهدئة لا تعتمد على مراجعة أفكار سابقة تم غرسها في الابن بل تدور حول مواعظ ونصائح عامة غالبا لأن الأب لا يملك أصلا أفكارا جديدة غير تلك ولا هو بالذي يمكن أن يقول لابنه بأنه كان على خطأ. يشتبك كثير من الآباء المتشددين مع أبنائهم حين يصبحون في ريعان الشباب إما لأنهم بدأوا في ممارسة بعض السلوكيات اليومية العادية التي يحرمها الآباء أو لأنهم أصبحوا أكثر (التزاما) من أبنائهم وبالطبع أكثر حماسا. ولأن الواقع الحالي بات يشهد حضورا للعمليات الإرهابية العائلية وحوادث قتل الأقارب فإننا نتحدث عن ظاهرة يجب إدارتها أولا من دائرة العائلة وسط هذا التفاوت في واقع العائلات تربويا ووسط حضور لا يزال قائما لمفهوم قديم للصلاح علما أن الدافع فيما يقوم به بعض الآباء المتشددين قد يكون ناتجا عن حب وحرص وخوف لكنه لا يعتمد على معرفة ولا يحسب حساب كل التحولات الاجتماعية التي ربما جعلت الأمر خارج سيطرته مستقبلا. هؤلاء الآباء المتشددون صادقون غالبا فيما يقومون به ويختلفون جدا عن كثير من الدعاة والوعاظ المشاهير الأثرياء الذين ما يلبث أن يكتشف أبناؤهم من واقع حياتهم ونمط معيشتهم أن تدين آبائهم هو مهنة وعمل ومقام اجتماعي أكثر من كونه حقيقة.