كانت بئر الخالدية البئر الأقرب لمنزلنا، كبرنا ونحن لا نعرف لها عمرا لكن آثار حبال الرشا التي نحتت الصخر ومواد البناء التي بنيت منها تعود الى أزمنة بعيدة.. سألنا الكبار فهزوا أكتافهم ثم قالوا عمر هذه البئر قديم جدا وماذا يهم؟ لم تكن البئر عميقة كثيراً.. خمس قامات..؟ ست قامات ربما ولكن ليس أكثر.. كان الماء مبذولا على الدوام.. والسحاب قريبا بما يكفي للمدد، كان يلزمنا فقط أن نقول يا الله ويهطل المطر. وكنا نحن الصبيان والبنات نرد من أجل الماء ومن أجل أشياء أخرى أشياء أجمل وكنا صغارا. وعندما كان يطمسها السيل كنا نتحول الى آبار أخرى آبار أبعد قليلا وبعذوبة ماء أقل وعندما يجف عنها نعود وتعود الحكايات ويعود الماء ماء. على حوض هذه البئر كانت هناك شجرة حناء وحيدة هي الأخرى لا نعرف لها عمرا وخضراء على الدوام ويقتسم البنات أوراقها الخضراء في المواسم والأعياد ويقتسمن قلوبنا الصغيرة أيضا. لم يكن من شجر قريب سواها أعني شجرة الحناء فالأشجار تؤوي العصافير التي تقتات الذرة ثم إن المساحات كلها للبئر ولنا وللرعيان. وعندما أُحضر الشجر الغريب للقرية زرعت هناك أشجار منه..زرعت شجرة نيم..بزروميا فيكس وشجرة لوز. لماذا زرعت؟ كان زمن التحولات قد وصل ولم يعد من مساحات الذرة المزروعة الا القليل والعصافير طارت إلى زمن لن يعود وحتى الماء كان يمضي أبعد وأبعد قبل أن يغور بعيدا وقبل أن يصلنا اختراع غبي اسمه الوايت ثم الخزان وبرميل الماء. لم نكن نهتم نحن الصغار كثيرا وربما لم نكن ندرك الفقد وما كان يعنينا هي شجرة اللوز التي سرعان ما أثمرت وغدونا نتقاسم ثمارها مع العصافير. وأخيرا كبرنا.. كبرنا كلنا مرة واحدة.. نحن والبنات وشجرة اللوز وحتى شجرة الحناء التي ما عاد يقصدها أحد وأخيرا همدت منها الروح. وتغربنا كثيرا.. والقرية اغتربت بكاملها ونسيت الطريق الذي كنت أسلك نحو البئر وكنت أعود إذ أعود على عجل.. لكأني كنت موكلا بالغياب. لكني أخيرا عدت لذلك الطريق القديم الذي لم يعد طريقا وعدت للبئر التي كنا نتقاسم قرص الشمس كل صباح على جال مائها ولكن ما عاد من شيء هناك.. سوى الشجر الغريب.. الغريب الذي أصبح سيد المكان. كنت أفتش عن البئر.. عن بقايا البئر وعن تصاكع الجرار والضحكات والشغب الطفولي وعن شجرة الفاغية. وكل ما كان هناك هو شيء يشبه القبر لكنه مختلف ربما هو قبر للماء. وعرفت أن ذلك هو كل ما تبقى من البئر التي ردمت وكان الوقت مباحا للصلاة علينا ومن أجلنا نحن الذين كنا هنا ذات يوم وما عدنا ولن نعود. عمرو العامري * * روائي سعودي