في يوم تشييعه إلى مقابر المعلاة في مكةالمكرمة، أدركت، يقينا، كيف هي دموع الرجال. وسط المئات ممن أحاطوا بقبر الشهيد العزيز، بحثنا من بين الجموع عن من نواسيهم، فأدركنا أن المواسين نحن والمعزين نحن.. فالراحل هنا هو «العمدة»، واسطة عقدنا، حبيب الكل. على مثل «عماد موسى» تذرف الدموع وتبكي البواكي. أيها الصديق العزيز، كم مرت السنوات سراعا بين حضورك الباهر ذاك، وبين هذا اليوم من العام الجديد، الذي تمازجت فيه مشاعر أسرتك الصغيرة، (أم زاهر) وكريماتك الخمس.. سادت حالة من الارتياح عقب تنفيذ حكم الله على من حرضوا وشرعوا وأسسوا لقتل والدهم. كان (زاهر) قد استبق استشهادك فهاجر، أما محمد ابن العشرين، فلم يحظ بإلقاء النظرة الأخيرة عليك.. كان في مصر حيث يدرس، وفي غربته اختطفت يد الإرهاب الأسود حياة والدك العمدة.. وهو حقا أحد عمد السودان قبل أن توقف قلبه العامر بحب الناس تلك الرصاصات الغادرة من أيد مرتعشة تسللت إلى مبنى القنصلية الأمريكية لتفرغ نارها على عدد من العاملين.. منهم موظف العلاقات العامة في القنصلية عماد الدين موسى. إنه القدر، إذ كان عليه مغادرة مكتبه صباحا، كما اعتاد عمله الميداني في إنهاء معاملات القنصلية مع القطاعات المختلفة، غير أن ثمة شيئا أرجأ خروجه، فاصطادته أيدي الإرهابيين الآثمة. قبل أيام من استشهاده، بعث إلى هاتفي دعاء الجمعة، وهي العادة التي لازمته، يحث الناس إلى الخير، إلى السباق الشريف في بنك الثواب كما يحلو له فهو رجل المبادرات الذي لا يمل، يكرم وفادة ضيوفه، يحسن إلى أهله ومعارفه، يصطحبهم إلى مكة ثم يعود بهم إلى باب شريف، يؤدي الواجب ويعبئ حقائب أحبابه بالهدايا. سألته ذات مرة: أين تجد كل هذا الوقت، في المواءمة بين عملك في قنصلية كبيرة ومسؤولياتك الاجتماعية، فأطلق ضحكته الرنانة، الصافية: أنا ألعب بخطة 4-2-4، قالها مزودا بخبرته وعشقه لكرة القدم وحرصه على توزيع محبته على هلال السودان وهلال السعودية.. ثم يأخذ بيدي ويتنحى جانبا: سمعت آخر نكتة، ويطلق ضحكته العالية ويمضي، وكأنه في سباق حانت له نقطة نهايته.! ينتمي شهيدنا، عماد موسى، إلى مدينة المناقل السودانية، في عمق منطقة الجزيرة المروية، أكثر أراضي السودان خصوبة، إذ يحيط نهران بمسقط رأس الشهيد، ومن النهرين استمدت المنطقة اسمها كأكبر منتج للقمح والقطن في السودان، ومن النيل استمد حبيبنا (العمدة) معاني العطاء والتدفق والجود. إذ تعود جذوره إلى قبيلة «الجعليين»، أعرق القبائل العربية في السودان، وهم قوم اشتهروا بالشجاعة والإقدام والكرم ومواجهة الموت بالصدور العارية. قبل أيام من استشهاده، غبر عماد موسى رجليه في شوارع جدة، طرقا لأبواب أصحابه (هلالاب) جدة، أي مشجعي فريق الكرة السوداني الشهير (الهلال)، سعيا لجمع تبرعات لشراء عربة إسعاف تغيث لاعبي الكرة، وتسعف سكان المنطقة المحيطة بملعبي الهلال والمريخ في ضاحية العرضة في أم درمان التي تحتضن مقري قمة الكرة السودانية. وعلى خلفية نشاطه الخيري الدافق انتخبه سودانيو جدة أمينا عاما لرابطة الهلال، فضلا عن عضويته في أكثر من لجنة خيرية.. ومع ذلك لم يتردد الإرهابيون في إفراغ رصاصاتهم على صدره فمات وفي جيبه بضع مئات من الريالات ادخرها تبرعات لعربة الإسعاف.. المشروع الذي لم يكتمل في يوم رحيله، غير أنه اكتمل عندما تصدى للمهمة أصحابه وأحبابه، فأكملوا مشروعه وبعثوا بعربة الإسعاف مزدانة بصورة الشهيد. وما زالت العربة تجوب الملاعب بعد 12 عاما من رحيله وكلما عبرت العربة مزدانة بصورة الشهيد عماد خطوط الملعب إلى قلب «السنتر» لإسعاف مصاب.. ارتفعت الأكف بالدعاء له.. والدعاء على من اختطف العمدة من بين أحضان اسرته. مضت الأعوام ولا زالت الأسرة تفتقده، شريكة حياته الصابرة. نجلاه زاهر ومحمد، وكريماته «آية»، «أروى»، «أسيل»، «أفنان»، و«إيلاف».. والأخيرة كانت في الخامسة من عمرها عندما خرج والدها ولم يعد.. سألت بعد أن شبت عن الطوق، من قتل والدها.. فاستعصمت والدتها بالصمت طوال تلك السنوات.. فأدركت أمس إيلاف وآية أي يد آثمة أفرغت نيران حقدها على والدهما «عماد». ربما كفكفت الأسرة آخر دمعاتها أمس، بعد أن نفذت السلطات السعودية حكم القتل في من حرضوا.. ونفذوا.. و(شرعنوا) لقتل عماد العائلة وعائلها. تتحدث الأسرة عن أي شيء لا يعوَض فقده وحضوره الباهي بين أبنائه وبناته كما تتحدث بكثير من الامتنان عن شهيدها الحي، وقد امتزجت دماؤه مع دماء رفاق الشهادة السعوديين في تعبير حي عن وحدة الدم والمصير والحزم المشترك في مواجهة الإرهاب الأسود، الإرهاب الذي لا دين له، ولا مذهب، ولا جنس أو وطن.