لم يتوقع ابن الخامسة أنّه سيشاهد من منزله الصغير تلك الحادثة المروعة التي راح ضحيتها مئات من المزارعين المحتجين في محطة القطار التي تلتصق بحي العائلة في كولومبيا. إنّه ألفارو سيبيدا ساموديو الفتى الذي كون ذاكرته عن هذا الحادث الأليم بعد تمدد شركات الفواكه وصدام المصالح النظامية مع حاجات أولئك المزارعين الذين خلدتهم الأعمال الروائية بداية بعمل «البيت الكبير» لساموديو الكاتب الصحافي الذي تلقى تعليما رفيعا في أمريكا، فيكون له السبق على العلوم الحديثة ولتنصب اهتماماته الصحافية على الجوانب السياسية، واضعا يده على معارف جديدة لم تتوفر بعد لرفاقه الآخرين ومنهم الكاتب الكبير جبرييل غارسيا ماركيز الذي يصغره في العمر حينها، ويعيش بالقرية ذاتها التي شهدت الحادثة المروعة، وهي قرية «أراكاتاكا» الكولومبية. تلك القرية التي ستعلو إلى مصاف قرية العالم برمز «ماكوندو» في الرواية الخالدة «مائة عام من العزلة» التي اتخذت من مذبحة الموز مفهوم الثورة؛ بينما رواية «البيت الكبير» ذهبت في هذه الثورة ووقفت داخل الجراح بقراءة نفسية فذة امتدحها الماركيز في تقديمه للرواية قبل أن ينشر عمله بخمس سنوات. اليوم تعيد دار طوى اللندنية طباعة هذه الرواية للمترجم الكبير التونسي محمد علي اليوسفي الذي كان قد نشرها في دار منارات الأردنية في 1986م، هذه الرواية التي قامت على لحظة هلع هزت أمريكا اللاتينية لتواجه حقيقة إنسان العصر القادم من أفكار الاستعمار الحديث بالحديد واغتصاب قوت اليوم وأمان العيش، فنهضت الرواية على وهلة الصرخة، ولكنها لم تدون أي طلقة أو صورة للمذبحة البشعة ببنادق السلطة المتواطئة مع الشركات الأمريكية. اختار ألفارو سيبيدا ساموديو أن يكتب في الوجع لا الدم، وكانت مفخرته الباقية في الورق قبل أن تكون في الذاكرة، أما الماركيز فترك العنان للسلاح وأرخ لتلك الواقعة في روايته «مائة عام من العزلة»؛ متقصيا شخصيات محددة تواترت في أعمال أخرى. وتعد «البيت الكبير» اليوم أهم ما أنجز كشاهد على تاريخ حركات التحرر والثورة ليس في كولومبيا وحسب، بل حتى في أمريكا اللاتينية التي أنجبت ذلك الواقع المرير، فتحول إلى سحر تجاوز حدودها مؤسسا تحولا في الأدب العالمي؛ وليبرز اسم الفارو سيبيدا ساموديو كرائد في الكتابة الشعرية الروائية، حتى عرف لاحقا على يد صديقه جابرييل غارسيا ماركيز وسمي بالواقعية السحرية.