لطالما كنت موقنة بأن لا شيء يشبه الحرية كالحب، ولا شيء يحررنا من الداخل من الأنا كالحب، لا شيء يشفينا، يثرينا، ويجعل لأيامنا معنى كالحُب. الحُب عظيم بكافة توجهاته، صوره، وأشكاله. بحار الحب لا تنضب، مداد الحب لا يجف. أنا أحب إذاً أنا إنسان، لا يمكن أن يجتمع حب الوجود في قلب إنسان مع نقيضه، الحب جذور كلما تشعبت في العمق كان بقاؤها أطول وأدوم. في الحُب نسعى باستماتة للقرب من المحبوب، وتقريب كل المسافات، وكسر الحواجز، وما إن يحدث هذا حتى نشعر بأننا في البعد أجمل كما قال جبران، متى ما أطرنا الحب بدأ بالاختناق ألم نقل بأنه يشبه الحرية، أتذكر بأني قرأت في مكان ما قديماً «أنت تريد أن تضعني في جيبك، إذاً سأموت هناك». قصص الحُب لم يلتقِ أبطالها، جميع العُشاق الذين التقوا لم نسمع بهم، ماتت قصصهم، في الحياة الاعتيادية، تأطير الحب جريمة لا تُغتفر، تشبه أن تمسك طائرا وتقص جناحيه ثم تطلب منه الطيران، كل أطر الحب هي قيود وأغلال، حتى ولو كانت مجرد ورقة، الحُب محيط لا شاطئ له ولا مرسى، ألم يقل نزار قباني: الحب ليس رواية شرقية.. بختامِها يتزوج الأبطال لكنه الإبحار دون سفينة.. وشعورنا أن الوصول محال في كتاب «الحب عبر التاريخ» للمفكر المصري «سلامة موسى» قال: «إن الحب ليس هو حب النظرة الأولى، حب العاطفة، وإنما هو حب التبصر، حب الوجدان والتعقل.» الحب حر لن يقبل أن يُسجن ومتى وجد نفسه بين قضبان العاشقين انتحر، وقتل نفسه بدون أن يشعر أحد، وحينها تموت كل الحكاية التي اعتقدوا أنها سوف تعيش أبد الدهر. «سمراويت» رائعة «حجي جابر» حملت لنا قصة حب عظيمة بين عمر وبين البحث عن ذاته بين البلد الذي عاش فيه ولم يعرف سواه «السعودية» وبين بلده الأصلي «أرتيريا» ذلك الحب الذي جعله يتردد بين البلدين، يبحث عن عمر. وعبّر عن ذلك بانه كان يشعر بنصف انتماء، نصف حنين، ونصف وطنية، حتى التقى سمراويت الفاتنة، وتكررت ذات القصة؛ الحب حر لا يقبل الأُطر، أعتقد لولا فراق عمر وسمراويت لما استحضرهم حجي جابر! فراق العُشاق لا يعني فراق الحب من دوامه، كما أن لقاءهم الأبدي لا يعني سرمدية حبهم، ما أعنيه أن الحب ليس بالضرورة أن يبقى ما بقي العشاق مع بعضهم، والعكس كذلك، الحب كيان قائم بذاته بهم أو بدونهم، ربّ فراق موغل في الحب، ولقاء به بقايا حب! حين افترق قيس ولبنى أنشد قيس هذه الأبيات التي تغنى بها صوت الأرض «طلال مداح»، و «محمد عبده» وغيرهما. أقضي نهاري بالحديث وبالمنى... ويجمعني والهم بالليل جامع نهاري نهار الناس حتى إذا بدا... لي الليل، هزتني إليك المضاجع لقد رسخت في القلب منك مودة... كما رسخت في الراحتين الأصابع وبعثت ولاّدة إلى ابن زيدون بهذا البيت: ترّقب إذا جن الظلام زيارتي.. فإني رأيت الليل أكتم للسر برغم أنها كانت كما ذكر الأغاني أنثى لعوب ومما قالت: أُمكنُ عاشقي من لثم ثغري.. وأعطي قبلتي من يشتهيها لكن «كان كلاهما أديباً، فكانا يتراسلان ويؤلفان قصائد الغزل، ويجتمعان سراً وعلانية». حتى افترقا ويأس ابن زيدون من لقائها وتخلدت قصة من أجمل قصص الحب في التاريخ وأبيات تقطر وجداً: يكاد حين تناجيكم ضمائرنا... يقضي عليها الأسى لولا تأسينا هذه نماذج لما ذكرته في البداية، بأن تأطير الحُب يقتله، يخنقه، الحب لا يعيش في جو من الراحة والدعة، الوجد هو وقود الحب، بدون الفراق لن نعرف كم أحببنا بصدق، كانت أمي تردد كلمة لأخيها الوحيد الذي تحبه جداً وكنت في صغري أحاول أن أفهم ما تعنيه، وحين كبرت وفي لحظة ما عرفت معناها بل أوغلت في معرفتها، تلك المعرفة التي تؤرق الروح، كانت أمي تقول: «الله لا يبيّن غلاك».