المفكر والناقد والمترجم المغربي الدكتور سعيد بنكراد يرى أن الحياة ليست وقائع تاريخية فقط، وأن الهوية ليست وطنا مؤطرا بحدود جغرافية بل هي ذلك وهي أيضا سلسلة من المحكيات التي لا يمكن فصلها عن سيرة الإنسان على الأرض، أصدر ما يقارب 25 كتابا في الفكر والفلسفة والترجمات والحوارات أبرزها ترجمة تاريخ الجنون لميشال فوكو، وربطته صلة وثيقة بأعمال امبرتو إيكو، وبقدر ما أسعدنا بقبوله التحاور مع «عكاظ» قدر ما أتحفنا بتأصيل وتأسيس مفاهيم لاغنى لعربي اليوم عنها خصوصا النخبة وهنا نص الحوار: الذهاب لدراسة الفلسفة والسيميائيات له طموح وغايات ما غايتك من تخصصك في السيمياء، وهل كان اختياريا أم ضرورة؟ كان الأمر عرضا، فذهابي إلى فرنسا لم يكن من أجل الدراسة، ولكن هربا من متابعات السلطة آنذاك وأثناء وجودي في فرنسا سجلت في جامعة السوربون التي كانت معروفة بتوجهها الشكلاني عامة، والسيميائي خاصة فانتسبت إلى قسم اللغة العربية (وكنا ندرس بالفرنسية في قسم اللغة العربية)، فوجدت نفسي أمام معرفة جديدة كانت غريبة كل الغرابة عن كل قناعاتي ولكنني مع الوقت، وعندما بدأت أتردد على بعض المعاهد التي كان يدرس بها أساتذة كبار من أمثال كريماص وجونيت وبيرموند، وغيرهم، اكتشفت أن الحياة أعمق بكثير من التوصيفات الجاهزة، وأن المعيش أوسع من كل النظريات، حينها فقط كببت على دراسة هذا العلم الجديد الذي أعطاني الشيء الكثير، لعل أهمها نسبية الحقيقة وتعددها. ما رأيك في قول البعض ليست كل دراسة الغرب وأفكاره قابلة للتطبيق في مجتمعاتنا العربية في الفترة الراهنة؟ ربما كان من الصواب أن نطرح الأمر بصيغة أخرى، فقد تقودنا الخصوصية التي نتغنى بها دائما إلى القول بضرورة الانتقاء في ميدان التكنولوجيا، وكل المعارف العلمية التي دونها لن نستطيع إدارة دقيقة واحدة من شأننا اليومي، كما لا يتعلق الأمر أيضا بمبدأ التطبيق أو عدمه، فكل جاهز لا يمكن أن ينتج معرفة، يجب أن ننظر إلى القضية من زاوية أخرى، تلك لا تنفي الاستيراد أو تحببه، وإنما تتساءل عن الكيفية التي يمكن من خلالها استثمار المتاح المعرفي الإنساني المعاصر في أفق الإسهام، من خلال لغتنا وموروثنا، في إغناء هذا المتاح ذاته، ذلك أن «المعرفة الغربية» (وأنا أفضل المنتج الإنساني) فنحن لسنا بلا تاريخ، بل أمة لها منجز نظري كبير في كل المجالات. وصل الغرب إلى ما بعد الحداثة هل بلغنا الحداثة عمليا في عالمنا العربي؟ ما بعد الحداثة ليست أفقا سياسيا، وليست نسقا اجتماعيا، بل هي طريقة في استعادة ما تركته الحداثة جانبا، إنها على عكس ما يعتقد الكثيرون، لم تأت كرد فعل على الحداثة، بل هي التفكير في جزء منسي فيها لذلك ليس مطلوبا منا اليوم أن نتحدث عما بعد الحداثة في حين أن جزءا كبيرا من حياتنا منظم داخل طقوس وممارسات موروثة عن القرون الوسطى، لقد عرفت مجتمعاتنا قفزة نوعية مست كل مظاهر حياتنا ولكننا لسنا حداثيين ولا علاقة لنا بالروح التي أشاعتها ما يجري عندنا تحديث، والتحديث قرار سياسي، أما الحداثة فاختيار حضاري يقوم على رؤية للكون من خلالها يتحرر الإنسان من قيود الفضاء العمومي، ومن النحن الاجتماعية، الكابح الأكبر للفرد لكنها ليست نسيانا للماضي،، فالحداثة هي فهم للتاريخ باعتباره سيرورة زمنية متطورة غير قابلة لتكرار نفسها،ولا زلنا نناضل من أجل تعليم أبنائنا الاحتكام إلى العقل وتعلم طرق البرهنة والتفكير العلمي. إلى أي مستوى يمكن للفلسفة والنقد السيميائي خدمة مجتمعاتنا العربية في درجة الحراك وإمكانية التغيير؟ السيميائيات ليست وصفة جاهزة، كما تصورها الكثيرون، وكما تمارس في بعض البلدان العربية، السيميائيات رؤية حضارية، من خلالها تتم مساءلة الوقائع باعتبارها نافذة على سلوك إنساني، ميزتها أنها منفتحة على كل هذه التيارات، فهي تستعير جزءا من مفاهيمها من الأنتروبولوجيا وجزءا آخر من اللسانيات وثالثا من الهرموسية بكل توجهاتها. إنها تساؤل حول المعنى، وهي بطبيعتها تلك لا تقدم أجوبة، بل تعلم الناس كيف يسألون. انتميت لليسار ألم يخذل اليسار أهله؟ ليس اليسار وحده من خذل الناس في الفضاء الثقافي العربي، خذلنا القوميون قبل ذلك، وخذلنا اللبراليون منذ سنوات قليلة خلت، وخذلنا نسيج آخر من الإيديولوجيات التي كانت تفتقد دائما إلى عمق حضاري يعيد النظر في البناء كله، لا في أدواته فقط، ولقد داهمتنا المدنية الحديثة على حين غرة ونحن أبعد ما نكون عن روح العصر. قال المفكر السعودي عبدالله القصيمي «العرب ظاهرة صوتية» كيف تقرأ هذه المقولة سيميائيا؟ لقد كان القصيمي عميقا جدا عندما أثار انتباه الناس إلى ما يمارسونه يوميا في غفلة منهم. ويكفي تتبع البرامج الحوارية في التلفزة لكي ندرك معنى هذه المقولة وامتداداتها في طرق تفكيرنا. إن الإقناع عندنا ليس في الكلمات، فمضمونها ثانوي، بل في طاقتها الصوتية، لذلك نتصور أنه كلما صرخت أكثر كانت حجتك أقوى، والسياق التواصلي يقوم على التهييج، لا على الإقناع الهادئ، والمتلقي لا يسمع الكلمات، بل يبصر الحركات في الجسد ويسمع الصوت في الكلمات. لماذا عندما يعلو شأن الثقافي يبدأ بالزحف تجاه السياسي ويزاحمه اختصاصاته؟ يبدو أن الصحيح هو العكس في تصوري، فالسياسي هو الذي يزاحم الثقافي، ذلك أن السياسي لا يقنع أبدا بدوره باعتباره مهتما بالشأن اليومي للناس، بل يريد أن يكون الكل في خدمته وتابعا له، والحال أن الأصل هو الثقافة وليس السياسة. هل نجحنا في تكوين المجتمع المدني في عالمنا العربي؟ نسبيا، وحسب الأقطار، بل هناك فائض من هذا المجتمع في بعض الأقطار، كما في المغرب مثلا، فهناك الآلاف من الجمعيات المتخصصة في كل شيء، بل الشيء الواحد تهتم به عشرات الجمعيات تتطاحن في ما بينها في الكثير من الأحيان. بالتأكيد هناك الغث وهناك السمين، وهناك من له ارتباطات بأجندات خارجية، وهناك من فشل في السياسة وعوضها بالمدنية. لماذا قامت ثورات ما سمي بالربيع العربي وأين وصلت وما مدى نجاحاتها؟ الجواب عن الجزء الأول من السؤال واضح، وحدها الرغبة في تحطيم قيود راهنة والتخلص من عبء الظلم، وربما هذا ما يفسر أن الناس خرجوا للشارع عفويا بدون سابق إنذار، كما تخرج الصرخة من فم جريح لم يعد يعبأ بما يحيط به من شدة الألم، خرجوا إلى الشارع دون برنامج ودون قيادة ودون أفق، ولم يكن في حوزة تلك الجماهير بديل حقيقي. أما النصف الثاني من السؤال فجوابه في اليمن وسوريا ومصر وليبيا. تونس وحدها يبدو أنها خرجت من المستنقع، قد يعود الفضل في ذلك إلى الإرث البورقيبي الذي نشر التعليم، ويعود في مستوى ثان إلى الفصيل الإسلامي، النهضة، الذي انتصر في الانتخابات، ولكنه رفض أن ينتصر على الشعب، وقبل القسمة وقيادة المرحلة الانتقالية بشكل جماعي، بل وقبل التخلي عن السلطة لكي لا يخسر هو ويخسر الآخرون أيضا، كما حدث مع الإخوان في مصر. متى ينجح الفقهاء في إزالة لبس الفتوى كونها غير ملزمة سوى لمن استفتاها؟ ما يقدمه المفتي ليس حقيقة موضوعية هي القصد الكلي للنص ومركز دلالاته، فلو كان الأمر كذلك لألغيت كل الفتاوى ولاحتفظ الناس بفتوى واحدة، والفقهاء هم أكثر الناس معرفة بذلك، لأنهم أشد الناس إنصاتا للغة ولتنوع الدلالات فيها بين اقتضاء ودلالة ونص وإشارة، وهم يعرفون أن الاختلاف ليس في المعتقد وحده، بل في تفاوت الناس في المزاج، والطباع والتربية والتاريخ الشخصي أيضا. والنص ذاته ليس قصدا، بل قصديات، وهو ليس كما دلاليا مودعا في غفلة من القارئ وفي انفصال كلي عنه، فجزء كبير من معانيه مستمد من السياق المباشر والبعيد، والجزء الآخر من مضافات المؤول نفسه. لذلك فالفقيه ليس «خالي الذهن»، بل يأتي إلى النص محملا بمعارف و«مسبقات» هي جزء من موسوعة عامة تتبلور داخلها مرجعياته الضمنية والصريحة. وهذا ما يجيب عن سؤالك، إننا لا نسفه الفتاوى، ولكننا نرفض أن تتحول إلى قانون يحكم كل الناس، «أي هي ملزمة لمن استفتاها» بلغتك، وليست مشروطة بتعميمها على كل الناس. وفي جميع الحالات لا يقين في الكلمات، ولا علم لنا بالقصد الحقيقي للنص، تماما كما نقول اليوم إن قصد اللغة في القواميس، أما قصد المتلفظ ففي المقامات التي تستوعب خطاباته. إلام ترجع تنامي العنف في عالمنا العربي برغم هذا الانفتاح الكوني والاتصال العولمي؟ العولمة ليست رديفا للسلم والطمأنينة وتآخي الشعوب، فأنت تلاحظ أنه كلما اتسعت دائرة العولمة، ازداد التطاحن وازداد انفصال القارات عن بعضها البعض في النمو والتطور والتعاطي مع العصر. ففي عز هذه العولمة بدأ الناس يتحدثون عن صراع الحضارات وتفوق هذه الحضارة على تلك، بل وأصبح التطاحن بين الفرق والمذاهب أقوى من أي وقت مضى. لم تكن العولمة خيارا كونيا جاء حصيلة تطور موضوعي شمل الأرض كلها، بل هو استجابة لحاجة اقتصادية رأسمالية معروف مركزها أو مراكزها، لم تراع أبدا حدة التفاوتات بين الشعوب والقارات والحضارات أيضا و الحاضر فمفتوح على كل التساؤلات. تشتغل على ترجمات غاية في العمق ألا ترى أن ترجمة الفكر مرهقة، إلى أي مدى تصح مقولة «الترجمة خيانة للنص الأصلي»؟ لقد أجبت دائما على هذا السؤال بالقول إنني لست مترجما، ولا أرتاح لهذه الصفة، لأنني لم أقدم على ترجمة العديد من الكتب رغبة مني في الترجمة، بل فعلت ذلك لأنها في الأصل جزء من انشغالاتي الفكرية، وهذا ما يبدو من عناوين الكتب التي ترجمتها، فهي في الغالب كتب في السيميائيات، بما فيها تاريخ الجنون لفوكو، الذي لم أقرأه باعتباره مؤلفا يؤرخ للمجانين، بل باعتباره كتابا يروي العالم الرمزي الذي خلقه الجنون. وأن تكون هذه الترجمة مرهقة فهذا أمر صحيح، ولكن المعرفة تحتاج دائما إلى جهد وإلى عناء، ولا يمكن أبدا أن نتقدم بأنصاف الأفكار أو أنصاف النظريات، نحن في حاجة إلى فكر عميق لكي ننتج حياة عميقة وتصورا عميقا للحياة، وكون هذه الكتب من جهة ثانية صعبة، فهذا أمر طبيعي فهي ليست موجهة لعامة القراء، إلا القليل منها، بل إلى متخصصين لهم معرفة مسبقة بالميدان الذي تتناوله هذه الكتب. وفي جميع الحالات، نحن من أكثر سكان المعمور تخلفا في ميدان الترجمة، والدول العربية مجتمعة لا تترجم ما تترجمه دولة واحدة في أوروبا هي إسبانيا. ما مشروعك الحالي مع التدريس؟ أشتغل الآن بما أسميه «السرد الديني والتجربة الوجودية»، وهو مشروع ينطلق من القصص الديني وقراءته وفق غايات تأويلية، قد تسهم في تخليصها من الغلاف المشخص لتصبح قادرة على استعادة التمثيل المفهومي الذي يتضمن القلق والرغبة في معرفة عالم آخر لا يرى في الوجود بشكل مباشر.