لا يمكن أن يرسم وجه الشاعر سوى الشاعر نفسه ، هو من يرفع الحجب إن شاء ، ويسمح لمريده أن يلتقيه ، في مدينة الشعر لا مناص من الافتتان بشاعر أحسائي الهوى ، سعودي الهوية، جواهري الإلقاء ، قصائده نباتات صباحية بيضاء لأنها لم تمر برحم معتم ، من اللافت أنك تجد تناغما واضحا بين جسم الصحيح العملاق وبين نصوصه الشامخة والمتسلقة قمم الجمال وهنا بعض أنفاسه المبذولة بسخاء كرم معتق في أنهار الحب. فإلى نص الحوار: ماذا يعني لك صدور الأعمال الكاملة للشاعر؟ بالنسبة لي، لم أصدر الأعمال الكاملة وإنما أصدرت معظم أعمالي الشعرية التي سبق أن طبعتها سابقا ولكن مع بعض الإضافات إليها وقليل من الحذف. هذه الأعمال الشعرية تحتوى على ثمانية دواوين، مضمومة في ثلاثة مجلدات كبيرة، والدواوين هي: (كي لا يميل الكوكب، ما وراء حنجرة المغني، نحيب الأبجدية، رقصة عرفانية، أولمبياد الجسد، حمائم تكنس العتمة، عناق الشموع والدموع، ظلي خليفتي عليكم).أعتقد أن الشاعر لا يمكن أن يطبع (أعماله الكاملة) وهو حي، والسبب أن الشاعر دائما ما يحمل (أعمالا كامنة) في داخله تخرج من مخابئها إلى الأوراق ما دام الشاعر يتمتع بالحياة. الشاعر عبارة عن موظف لدى لحظة شعورية ليس لها نهاية مهما طال عمر هذا الشاعر حيث رأينا شعراء في التسعين من العمر يلبون نداء تلك اللحظة الشعورية ويمارسون كتابة ذواتهم بإتقان وإبداع. هل يمكن أن نعتبر طباعة هذه الأعمال الشعرية تعبيرا عن نهاية مرحلة وبداية أخرى تتغير فيها رؤية الشاعر للحياة والأحياء؟ أنا في امتداد حقيقتي لا أنتهي مهما نزلت على النهاية منزلا في كل حاجز لحظتين أطوفه تنمو الرؤى وأكاد أن أتبدلا طعم الوصول أو الرحيل، كلاهما عذب لمن قصد الحقيقة منهلا ما زلت أحرق داخلي (رزنامة) ال- أيام.. أستبق الزمان المقبلا آوي إلى كلأ العقول ومائها.. أتمثل الأفكار بدوا رحلا هذه الأبيات من إحدى قصائدي تصرح بأن الشعر هو رحلة بحث عن الحقيقة لا تنتهي لأن الحقيقة في ذاتها ليست شاطئ وصول، وإنما هي ذاتها حالة البحث عن كلأ العقول ومائها مثلما يبحث البدو عن العشب والمطر.. أي أن البحث عن المجهول يقتضي عملية متواصلة من السفر والمجازفة، وكلما وصلنا إلى محطة استدرجتنا محطة أخرى.. ولا يبقى لنا من كل هذه الأسفار والمجازفات سوى الشعر. بناء على كل ذلك، فإن الانتقال من مرحلة في الشعر إلى أخرى لا يأتي بالطباعة وإنما هو مستمر ما دام الشاعر يحمل مسؤولية اكتشاف جمال ذاته وحقيقته عبر الكلمة. إلى أي مستوى يمكن أن تبلغ القصائد في التعبير عن الشاعر؟ الشعر يمثل سيرة فنية عن حياة الشاعر.. سيرة موشحة بالدلالات والرموز.. لذلك ثمة دائما كائن حي يتمشى في شوارع تلك السيرة ويدفع مسيرته عبر أبعادها. أما السؤال إلى أي مستوى يمكن للقصائد أن تعبر عن الشاعر فأعتقد أن ذلك يعتمد على الوعي الشعري لدى الشاعر وقدرته في التعبير عن ذاته في القصائد التي هي في الحقيقة عالم لغوي مطابق للعالم الواقعي، وإن كان التطابق الكامل مستحيلا. يرى البعض أن الاستماع إليك ملقيا شعرك أجمل من القراءة.. ألم تفكر في ديوان مسموع؟ أعتقد أن متعة الاستماع إلى الشعر تختلف عن متعة قراءته. وهناك البعض ممن يستمتعون بالقراءة أكثر من الاستماع والعكس صحيح. اللذة الشعرية الكامنة في كل نص قد يستخرجها الشاعر عبر الإلقاء حيث إن الإلقاء ليس مجرد قدرتك على التحكم في اللغة نحويا وأن تكون عارفا بالعروض كي تتفادى الكسور، وإنما يتجاوز اللغة والعروض إلى الإحساس الأول بالقصيدة وهي تنبع من قاع اللاوعي في لحظات الوجد الغائمة. الإلقاء يشبه إلى حد ما ابتكار اللحن للأغنية، لذلك، يتجلى أولا عبر استحضار تلك اللحظات الوجدانية التي انهمرت من بين أصابعها معاني القصيدة. ولا شك أن استحضار تلك اللحظات بوهجها الأول الذي انبثق خلال الكتابة يكاد يكون مستحيلا، لذلك يحاول الشاعر أن يلتبس بتلك اللحظات وأن يتقمصها قدر الإمكان مثلما يتقمص الممثل دوره في الدراما، بحيث يظهر وكأنه يكتب القصيدة في لحظة إلقائها دون أن يشعر المتلقي بذلك، بالضبط مثلما الممثل الذي يستطيع أن يقنعنا بتمثيله حينما نشعر أنه لا يمثل الدور وإنما يعيشه.عودا إلى السؤال، إن فكرة إنتاج ديوان مسموع حاضرة بقوة في ذهني، خصوصا في الفترة الأخيرة، حيث إنني لم أكن من قبل أعير اهتماما لهذه الفكرة من باب الكبرياء الشعري زعما بأن الشعر يجب أن لا يكون مبتذلا، ويجب أن يسعى إليه القارئ كي يشعر بقيمته. لكنني اكتشفت أن هذه الفكرة بعيدة عن الواقع. لذلك، أتمنى أن أصدر قريبا ديوانا مسموعا من مختاراتي لبعض قصائدي ويكون متوفرا للناس. أيهما أكثر اعتبارا عندما تكتب: الذائقة العامة أم النقاد؟ الأكثر اعتبارا هو الرقيب الفني الذي يعيش في ذاتي.. لا يوجد رقيب من الخارج إلا بمقدار ما يفزعني أن أكون أقل من توقعاته الإبداعية فقط. إن وجد الكتابة يغلب وعي الرقابة في داخلي، والسبب هو أن الإبداع بالنسبة لي ليس مجرد مناورة بالألفاظ يتمخض عنها إنجاز لغوي، وإنما هو مشهد ثقافي يتشكل في الوجدان ويتم تنفيذه داخل اللغة. كيف نجحت في حماية نصوصك من الأدلجة؟ هذا الأمر احتاج مني مراحل زمنية من الوعي وإعادة إنتاج الذات في أتون التجارب الإنسانية. لقد بدأت كما بدأ غيري حاملا لفيروس الأدلجة الشعرية، ولكن الشعر محرض على التغيير والبحث عن مناطق جديدة من الجمال في العالم والذات. الشعر محرض على الخروج من ضيق الكلام إلى سعة المجازات كما أنه محرض على الخروج من ضيق الأيدولوجيا إلى سعة الإنسانية. أما الوسيلة لإنجاز مثل هذا الخروج فهي الثقافة الواعية التي تمنحنا القوة لتحطيم الحواجز القائمة في أعماقنا والعبور إلى مساحات جديدة لاكتشاف مجاهيلها. قال محمود درويش يوما " لا بد من كتابة أخرى نثرية وسردية كون النص الشعري لا يمكن أن يستوعب كل انفعالات وحياة الشاعر".. ماذا تقول أنت؟ - أنا أعتقد أيضا لا بد من كتابات نثرية وسردية، ليس لأن النص الشعري لا يستوعب حياة الشاعر، وإنما لا بد من التجريب على كل الأصعدة. التجريب هو المصباح الذي يحمله الإنسان على طريق البحث لاكتشاف الحقيقة وعوالمها اللانهائية. لذلك، لا بد من كتابة مختلفة من عصر إلى عصر وإن كان ذلك لا يعني القطيعة بين العصور. ما موقفك من الرمزية في الشعر؟ الرمزية تمثل أسلوبا من أساليب الكتابة الشعرية حيث إن حضور الرمز في القصيدة يمثل شفرة ثقافية لا يمكن الوصول إلى أسرارها وكشف القناع عنها إلا بمقدار ما يحمل القارئ من ثقافة. بعض الشعراء يضع الرمز في منطقة الظلام الدامس وهذا يقود إلى الإبهام في المعنى ويعقد حل الشفرة، والبعض الآخر يضع الرمز في منطقة الشمس الساطعة وهذا الوضوح الصريح يقود إلى فك الشفرة دون عناء وبالتالي دون متعة، إلا أن الأجمل من الشعراء يضعون الرمز في منطقة الظل أو منطقة الغروب وهذا يحتاج من القارئ إلى بذل قسط من المجهود الفني لحل الشفرة من أجل الوصول إلى متعة فنية عالية. ألا ترى أن تصاعد مؤشر الفنون الأخرى أضعف حضور الشعر؟ الشعر يجيد كيف يهرب نفسه في الأشكال الإبداعية جميعها، فلا يمكن لفن من الفنون أن يزدهر إلا بمقدار ما يزدهر الشعر فيه. لذلك، كل حديث عن انحسار الشعر هو حديث غير دقيق، ولكن ربما تكون القصيدة (وهي المظهر الأشهر للشعرية) قد تقهقرت مقارنة بالرواية أو المسرح وهذا صحيح، بينما ما يزال الشعر يسطع في الرواية ويتألق على المسرح ويضيء في كل فن جميل من فنون الحياة. بماذا ترد على من يقول أن الإلقاء سلاح (الصحيح) الأول؟ لا أعرف ما هو الهدف من هذا القول؟! هل المقصود أن شعري ضعيف على الصعيد الفني وأن الإلقاء يعطيه قيمة عالية؟! إن كان كذلك، فأنا أقول: اقرؤوني بدلا من الاستماع لي، وأنا شخصيا لا أعتب على الشخص الذي يقرأ ثم ينتقد، لكنني أتبرم من الشخص الذي ينتقد من دون قراءة واعية. هل ظلمك النقاد؟ لا أعتقد أن النقاد ظلموني. هناك البعض من النقاد الذين تناولوا تجربتي أو تناولوا جزءا منها على الأقل، حسب تفاعل كل ناقد مع شعري على امتداد عمر التجربة. أنا لست إلا شرفة واحدة من شرفات عديدة تصنع مشهدا شعريا متنوعا في أرجاء الوطن. تجربتي هي عبارة عن امتداد لأبعاد الشعرية العربية الكلاسيكية في بنائها الظاهري وإن طغت عليها اللغة الحديثة وغلبت عليها روح العصر. بعض النقاد يرون أن الشعرية العربية قد تجاوزت الكلاسيكية شكلا ومضمونا، لذلك لا يسلطون أضواءهم الكاشفة على مثل هذه التجارب، ولكن البعض الآخر من النقاد يرون أن الشعرية يمكن أن تتجلى في عدة مظاهر وتأخذ زينتها بامتياز. متى نقرأ نصوصك في المقررات الدراسية؟ أعتقد أن جواب هذا السؤال لدى وزير التربية والتعليم، ولكنني أرى أن الوقت قد حان لإعادة إنتاج كتب المدارس سواء كانت الكتب الأدبية أو الدينية أو العلمية بما يتناسب وروح العصر. وما دمنا نتحدث عن الشعر، فأعتقد أن حضور الشعراء المعاصرين في النصوص المدرسية هو واجب وطني يمثل شكلا من أشكال تكريم هؤلاء الشعراء عبر تقديمهم للأجيال في مرحلة مبكرة من العمر. ما هو دور الشعر أمام القضايا المصيرية للوطن وللأمة جمعاء، خصوصا في ظلال الإرهاب وما يسيل من دماء الشهداء؟ لا يوجد شعر يصل في تعبيره إلى ما يصل إليه الدم حين يعبر عن موقفه مهما كانت القصيدة رائعة وجميلة ، فدماء الشهداء هي التي تنطق، أما الكلام فمهما تعالت صيحاته يبقى صمتا.. لكن هذا لا يعني أن ينسحب المبدعون من ساحة المعركة التي تمتد لتأخذ أبعادا أخرى غير البارود والقنبلة ، فهناك معركة ثقافية تخوضها الأمة ويقودها مبدعون صادقون تحملوا في سبيل أهدافهم ما جعلهم رموزا خالدة للأجيال. وأنا شخصيا لا أجيد الحديث في العناوين الكبرى لأنها أكبر من قدراتي.. مثلا عنوان (الشهادة).. هذا العنوان الذي يضيق به التاريخ فكيف تتسع له قصيدة أو بيت شعر !! والكتابة عن القضايا المصيرية هي كتابة عن الذات الجماعية ، وهذه الذات مزروعة داخل كل مبدع يحمل هموم أمته ولكن علينا أن نفقه أن أسلوب الكتابة يتغير من عصر إلى آخر رغم بقاء الهموم على حالها ، لذلك لا نطلب من الشاعر أن يكتب القصيدة التي تحمل الذات الجماعية والهم الجماعي والجرح الجماعي بنفس الاسلوب الذي اعتمده بدوي الجبل او عمر بوريشة أو الجواهري أو غيرهم في القرن الماضي.