جاسم الصحيح ، الصاروخ الشعري المنطلق من الأحساء ، كما وصفه غازي القصيبي ما زال يواصل ترحاله في فضاء الإبداع الشعري وما زال يسجل حضوره القوي والبارز في ساحتنا الثقافية من خلال مجموعاته الشعرية المتوالية ، الكثيرة نسبيا قياسا إلى عمر تجربته ، ومن خلال مشاركاته في الأمسيات والمهرجانات الشعرية محليا وعربيا ، وكذلك من خلال الجوائز العديدة التي حصل عليها والتي كان أبرزها جائزة البابطين عن أفضل قصيدة على مستوى العالم العربي عام 1998. إنه شاعر يتنفس شعرا. يصغي ل( نحيب الأبجدية) ويرسل حمائمه لتكنس العتمة ولا يتعب من الركض في ( اولمبياد الجسد) وحين يتعبه الترحال ينشد الراحة في (أعشاش الملائكة). ديوانك الأخير ( أعشاش الملائكة ) يحمل الرقم سبعة بين دواوينك التي نشرت أولها ( ظلي خليفتي عليكم ) عام 1417. أي أنك تنشر ديوانا شعريا كل عام على وجه التقريب. ما سر غزارة إنتاجك ؟ ألا يشكل ذلك استنزافا لشاعريتك وإرهاقا لها وقسوة عليها؟ * في البداية أحبّ أن أوضِّح أنّ دواويني الثلاثة الأولى لم تجئ وليدةَ الأعوام التي طُبِعَتء فيها وإنما جاءت وليدةَ الأعوام السابقة. ولكنِّي أتّفق معك حدَّ المطابقة بخصوص ذلك الاستنزاف الهائل لِما تسمِّيه أنت: شاعريتي.. كلّ ذلك صحيحٌ .. وأستطيع أن أعلّل كثرة الإنتاج هذهِ بسببين: الأوّل يكمن في ارتباطي بالمناسبات.. هذا الارتباط المبرَّر من جهة وغير المبرَّر من جهة أخرى.. فهو -أي هذا الارتباط- مرآة لحجم التنادي الإجتماعي الذي يحظى بِتلبيتي فهو مبرَّر من هذا الجانب.. إلا أنّ كثيرا من القضايا الإجتماعية لا يمكن أن تمنح الشعر أفقا للتحليق وهذا ما يجعل الشعر في هذا الجانب غير مبرَّر. أما السبب الثاني فيعود إلى زعمي القديم بأنّ الشعر هو المعادل الفنيّ للخيبة الحياتية وبما أنّني غزير الخيبات جاء شعري غزيرا في مادّته إذء ربّما تكون القصيدة تعويضا معنويّا لخساراتي المادّية أو الروحيّة في حقول الحبّ والخير والجمال.. وكما تعلم يا أخي عبد الوهاب فأنا لا أكتب عبر ممارسة الاجتهاد الذهني في مساحات شاسعة من الخيال وإنما أكتب من صميم الواقع الذي أعيشه وأقتطف مشاهدي من شجرة المعاناة. @هل لا يزال جاسم الصحيح أسير بيئته الاجتماعية والثقافية التي تفرض عليه أطرها ومرئياتها التي لا يستطيع جاسم الانفكاك منها والتمرد عليها إلا بشكل جزئي في بعض نصوصه؟ * الجواب هو (نعم).. ولكن إلى حدٍّ ما.. والسبب وراء ذلك يعود للطريقة التي يتكوَّن فيها الشاعر في مجتمعاتنا فهي طريقةٌ أشبه بالطرق القديمة التي تصنع من الشاعر ترجمانا لأحوال قبيلته.. وهنا تقابلها أيدولوجيته.. وإذا كان ذلك مقبولا في السابق فهو غير مقبول في الراهن لأنّ الشعر بوصفه كائنا حيّا قفز على حالة الجعجعة التي كان يعيشها ودخل في خلوة التأمّل فأصبح أقرب إلى ذاتِ كاتبه منه إلى ذوات الآخرين.. إلا أنّ الشاعر في مجتمعاتنا دائما ما يطابق بين الذات الفردية والذات الجماعيَّة وربّما تنازل عن ذاته لصالح الذات الكلّيّة. ذاتَ مهاتفة ودودة.. همس لي صديقي الكبير في إنسانيته وإبداعه الناقد الأستاذ محمد العباس قائلا: ( جاسم.. لولا رصيدك الديني عبر المشاركة في المحافل لأصابتك لعنة المجتمع بسبب نصوصك الأخرى الخارجة على قوانينه).. هذا مضمون ما قاله الصديق العباس. أعتقد أنّ هذه المقولة دقيقة جدّا وربّما حصل ما كان يقصده العباس فقد أثارت بعض قصائدي.. أو بعض أفكارها.. امتعاضا اجتماعيا إلى حدٍّ ما، ولكن لم يصل إلى درجة الانقلاب ضدّي إلا ما ندر! @ ثمة ما يشير إلى حالة من الفصام أو التعدد في (أنا) جاسم الشعرية ؛ فهو تارة شاعر المنبر الممثل لأيدلوجيا فئة عريضة من الناس يمثل الإيمان مرتكزا راسخا فيها ، وتارة يكون الشاعر المفتون بالمرأة، وتارة يكون شاعر التساؤلات الكبيرة والشك والحيرة والتردد. ما تعليقك؟ * في علاقتي بالشعر أحاول أن أتمثَّل الإنسان في كلّ مشاعره عبر التعبير عنها دون مواربة.. وأهمّ من ذلك أحاول بالشعر أنسنةَ هذه المشاعر في علاقتها بالحياة سواء كانت من خلال الأيدولوجيا أو غيرها.. من هنا لا أعتقد أنّ ذلك يشكّل انفصاما في الأنا كما عبّرتَ حضرتك عنه.. ولكنِّي في الوقت ذاته لا أستطيع أن أنفي فكرة الانفصام نفيا قاطعا فهناك قصائد كتبتها مجاملةً وقصائد كتبتُها حياءً وقصائد وقصائد.. في نهاية المطاف.. أعتقد أنّ القصيدة وليدة مزاج اللحظة دائما.. فتارةً يكون هذا المزاج هادئا مستقرًّا على الإيمان مثل جبل، وتارةً تداهمه رياح القلق والشكّ، وتارة أخرى تصحو الغرائز الطبيعية داخل النفس البشرية فتوقظ معها غابة الشهوات والنزوات. باختصار مفيد.. القصيدة ابنة اللحظة ولكنها في الوقت ذاته قادرة على أن تكون أمّ الغد التي تربّيه على يديها! @ هناك من يرى الشعرية تتجلّى أكثر كلما اقتربت من النثرية حيث لا حواجز تقف في وجه التدفق العاطفي مما قد يعيق انطلاقة هذا النهر الفني.. ربما كان ذلك صحيحا.. ولكنّي لم أصل إلى قناعة بهذه الفكرة إلى الآن وهذا ما يجعلني أقلّ قدرةً من السيطرة على الشعرية داخل الكتابة النثرية. من جهة القصيدة العمودية.. شأنها شأن بقية الأشكال الشعرية.. هناك شعراء عموديّون يكتبون العمودية كتابةً تُقنعك بأنّ القصيدة العمودية قائمة بذاتها وقادرة على أن تواصل الحياة مهما امتدّ بها الزمن.. وهناك شعراء عموديّون يُنذرون بأن القصيدة العمودية قد آلت إلى السقوط. هذا الأمر ينطبق على بقيّة الأشكال.. وهنا أنتهي إلى الحقيقة التي أؤمن بها وهي أنّ الشعر الحقيقي نادر في كلّ الأشكال الشعرية ولكنه موجود بِنُدرته فيها جميعا! @ مر فوزك بجائزة البابطين الشعرية لأفضل قصيدة سنة 98 دون أن يحتفي به أحد ، حسب علمي ، في الساحة المحلية. على عكس الاحتفاء الكبير الذي حدث لدى فوز الشاعر محمد الثبيتي بنفس الجائزة في عام لاحق. ألا تعتقد أنك قد ظلمت نقديا؟ هل تحس أن الحركة النقدية قد أنصفتك؟ * لا أعتقد أنّني مظلوم نقديا أبدا.. بل على العكس من ذلك، أشعر بوجود تعاطف نقدي كبير مع تجربتي المتواضعة جدا لو تمّ قياسها بتجارب الشعراء من أترابي داخل وخارج المملكة. ولا أنكر أنّي استفدتُ كثيرا من علاقتي الشخصية بالنقاد خلال جميع المراحل الشعرية التي عبرت بها ابتداء من النقد الانطباعي إلى النقد العلمي الفنّي. أما من جهة جائزة البابطين والاحتفاء بها ، فمن الظلم الكبير المقارنة بيني وبين الشاعر الفذّ محمد الثبيتي.. لقد فاز الثبيتي بجائزة البابطين وهو نجمٌ شعري فأضاف لها مجدا بوضع اسمه ضمن لائحة الفائزين بهذه الجائزة .. أما أنا فقد فزت بها وأنا خامة شعرية لم تُصقل بعد فدفعتني الجائزة للعمل على أن أصقل نفسي بعد ذلك نظرا لِما حمَّلتني من مسؤولية.. لهذا السبب، لا يوجد مكان للمقارنة بيننا فالثبيتي أفاد الجائزة وأنا استفدتُ منها ! @ يبدو لي أن هاجس إيصال الفكرة أو المعنى أو الرسالة لا يزال مهيمنا عليك فيما تكتبه من نصوص شعرية. إذا وافقتني الرأي فيما أذهب إليه فما رأيك فيمن يقول (ليس على القصيدة أن تعني ، وإنما يكفي أن تكون) A poem should not mean but be. * الشعر هو طريقٌ يوصل إلى المعنى.. وليس المعنى بعينه. هذا الطريق قد يكون معبَّدا ومشجَّرا بالجمال وقد يكون طريقا غير معبَّد ولا يحمل أيّ علامة من علامات الجمال.. وهنا يتَّضح الفرق بين الشعر الجيّد والشعر غير الجيِّد. وإذا شئت أن أستخدم تعبيرا شعريا في تعريف الشعر سأقول إنّ الشعر هو مجاز يوصل إلى الحقيقة على أجنحة الخيال. هذا هو أحد التعاريف التي أعتمدها للشعر، ولكن تبقى صعوبةُ تطبيق هذا التعريف حينما أقف أمام الورقة وقد استدرجتني اللغةُ إلى صحراء فتنتها حتّى التيه. هناك أسقط في المباشرة أحيانا وأحيانا في الترميز الأعمى وأحيانا أخرى في النثرية الفجّة وهكذا دواليك.. وقد يحالفني الحظّ ما بين هذه المنعرجات وأصل إلى الطريق فترة زمنية بسيطة ثمّ أعود إلى ذات المنعرجات.. هذه هي الحالة الشعرية.. لا يمكن لها أن تستمرّ طوال القصيدة مهما حاول الشاعر أن يلوي عنان موهبته تجاه الشعر. وما يميِّز المفردة الشعرية عن معناها اللغويّ هو أنّ مساحتها المعرفية والتأويلية تكون أكبر وأشمل وكأنّها قد تجاوزت سياق الكلمة إلى سياق المفهوم فأصبحت بذلك تلميحاً بدلاً من أن تكون تصريحاً ، وصارت ظلالها مصدرا للطاقة الفنيّة وليس جسدا لها كما هو الحال في الكلمة النثرية المباشرة.. وهذا ما يجعل القاموس الشعريّ قاموسا من الطيوف.. وإن شئت قاموسا من الأشباح في بعض الأحيان.. ورغم أنَّه صغير في حجمه ومختلفٌ من شاعر إلى آخر ، إلاَّ أنَّه كبير في مضمونه وذلك لأنّ المفردة الشعرية الواحدة -كما أسلفتُ- تكون ذات طاقة إيحائيّة هائلة تتجاوز طاقتها التعبيريّة المباشرة. وأعتقد أنّ الشاعريّة هي عنصر التوحيد والتجانس الحميم الذي يؤلّف بين قلوب الكلمات المتنافرة عبر تفاعل فنيّ يعيد إنتاج الحياة في صيغة أدبية رائعة.. وإلا فما الذي يربط بين الحبّ ولون البنفسج أو بين قلوب العشّاق وجمر الغضا.. لا شئ سوى الشعر هذا المخلوق العجيب !! والأمر يعود إلى مقدار لوعة الشاعر وعمق تأمّله في هذه اللوعة.. إضافةً إلى قدرته على استبطان المفردة واستخراج طاقتها اللغوية والشعورية ! غلاف اعشاش الملائكة