لا يخفى على أحد أهميَّة الإلقاء للنصِّ الشعري العربي، وربَّما لكلّ نصّ شعريّ بغض النظر عن لغته أو لسانه فاللغة الشعرية لغة عائمية واحدة، لكنَّ ما عُرِفَتْ به الثقافة العربية قديماً هو أنَّها في أساسها كانت ثقافة شفهيَّة، والشعر يمثِّل متنَ هذه الثقافة فهو ديوان العرب، وما عداه يمثِّل هامشا ضئيلا وإن كان جميلا. ومن ألطف ما اشتهر به تاريخنا الأدبي هو مصطلح (الراوية) الذي يحفظ أشعارَ شاعرٍ ما عن ظهرِ قلب، ويرويها على رؤوس الأشهاد في الأسمار والسهرات والمحافل وحتَّى الشوارع. ولكن هل كان بإمكان الراوية أن يوصل روح الشاعر إلى الناس كما هي نابضة في أعماق القصيدة؟ مثلما يكون الإملاءُ أحياناً عاهةً في يد الكتابة، يكون الإلقاءُ أحياناً عاهةً في فم القصيدة التي قد تظل على المتلقِّي معاقة بسبب الإعاقة في إلقاء شاعرها أو (راويته). الإلقاء ليس مجرَّد قدرتك على التحكم في اللغة نحويًّا وأن تكون عارفا بالعروض كي تتفادى الكسور، وإنما يتجاوز اللغة والعروض إلى الإحساس الأوَّل بالقصيدة وهي تنبع من قاع اللاوعي في لحظات الوجد الغائمة. الإلقاء يشبه إلى حدٍّ ما ابتكار اللحن للأغنية، لذلك، يتجلَّى أوَّلا عبر استحضار تلك اللحظات الوجدانية التي انهمرت من بين أصابعها معاني القصيدة. ولا شكَّ أنَّ استحضار تلك اللحظات بوهجها الأول الذي انبثق خلال الكتابة يكاد يكون مستحيلا، لذلك يحاول الشاعر أن يلتبس بتلك اللحظات وأن يتقمَّصها قدر الإمكان مثلما يتقمَّص الممثِّل دوره في الدراما، بحيث يظهر وكأنَّهُ يكتب القصيدة في لحظة إلقائها دون أن يشعر المتلقِّي بذلك، بالضبط مثلما الممثل الذي يستطيع أن يقنعنا بتمثيله حينما نشعر أنَّهُ لا يمثِّل الدور وإنَّما يعيشه. بالنسبة لي، لا أستطيع أنْ أستوعب أنَّ أحدًا ما يستطيع أن يلقي قصيدةَ شاعرٍ ما أفضل من ذلك الشاعر، وأن يكون ساعيَ بريدٍ أمينا على الأحاسيس والمشاعر والأفكار والمعاني، إلا أنْ يكون ساعي البريد هذا شاعراً, ذلك لأنَّهُ حتَّى وإن كان متمكِّنا من أدواته اللغوية، فهو لن يستطيع أن يستجلب أحاسيس الكتابة من مكامنها داخل ثنايا نفس الشاعر الذي أبدع القصيدة. لكنَّ ما يؤذيني حقًّا هو أنني استمعتُ إلى شعراء ملأوا أفواهَ قصائدهم بالعاهات.