ولد الشاعر البرتغالي «أل بيرتو» سنة 1945بمدينة كوامبرا من أسرة محافظة. عاشت رفقة أسرته في المنفى ببلجيكا ما بين 1967 و1975. درس أل بيرتو الفن .. واسمه الكامل هو: ألياس ألبيرتو رابوسو.. ثم اختار في سنة 1971 طريق الكتابة، فاختصر اسمه «أل بيرتو». الكثير من أعماله مثل: «البحث عن الرياح في حديقة خلال أغسطس». و «ثلاث رسائل من ذاكرة الهنود» تعكس بقوة تأثره بالأوساط الفنية والأدبية المتمردة. تجاربه الشعرية منحازة لأعلى درجات العزلة. شعره شديد الغنائية. مهووس بالصور كما الحروق، أو الجروح أو الملح الذي يزيد من آلام الحياة. تأثر البرتو كثيرا بحياة جان جونيه المتمردة ومصير رامبو المبهر. نصوصه الأولى تشهد على ذلك، فقد أهداها لهاذين المبدعين العظيمين. مثل «بقايا القصيدة الميتة» (1991) و «صورة الحريش» (1991) و «موت رامبو» (1996). كان أل بيرتو عاشقا للعالم والناس والأشياء، والمناظر الطبيعية خلال الليل. كان يرى عالم النهار متسمما وموبوءا ويجب الابتعاد عنه. أما الليل فهو مجسات لحساسية متجددة وإبداع مذهل. في الليل تولد الكتابة الحقيقية: الكتابة المتوهجة حيث «ضوء الصورة»، الذي نعته السوريالي بريتون بزمن ولادة «الشرارة»، التي تدفع الإبداع إلى أقصى الحدود. بحيث تتوافر الصفات والأسماء، وتكثف الطاقة الوهاجة بومضات مبهرة، تكاد تكون عزيزة المنال. يتحدث الشاعر عن مدينة ليشبونة الأثيرة قائلا: «أقيم في ليشبونة كما لو أني أقيم في نهاية العالم. في مكان ما حيث تجتمع بقايا أوروبا كلها. في كل زاوية شارع أجد جزءا من مدينة أخرى، أجسادا أخرى وأسفارا أخرى. هنا، مازال بالإمكان تخيل قصة وعيشها أو المكوث هنا ساكنا متأملا النهر متظاهرا أن زمن أوروبا لا وجود له وربما زمن ليشبونة أيضا».. لكن هذه الإقامة لن تدوم، فاختيارات الشاعر واضحة، فهو يبحث دائما عن أمكنة منعزلة. ويبدو أن المدينة الأطلسية ومسقط رأسه «سينيس» كانت محطته النهائية، حيث غسل جسده وروحه واستعاد فيها طفولته وذكرياته التي بدأت تهب عليه من وقت لآخر بنسائم لطيفة تداعب وجوده القلق. في عزلته، أصبح صوت «آل برتو» خفيضا وعميقا وأخذ يكتب الرسائل، مداويا جروحه بحنين شفاف إلى الأصدقاء والأحباب. في 13 يونيو 1997 توفي أل بيرتو في لشبونة مستسلما للداء الخبيث ومودعا عزلة الليل والبرد والشتاء. بستان الحرائق .. 1 .. تنبعث المنازل فجأة مضاءة من الداخل العزلة تعصر الحيطان بين حضنها أحس قوتها تعطر جسدي من خوف ليالي الشتاء. .. 2 .. ما يمكث بعد الهروب غير صور السفن. لكننا ننتشي بالكلمات وحدها هو اللهب الطويل من يلتهم السفن والذاكرة حيثما رحلنا ننسى ما علمونا إياه وإذا فتحنا أعيننا صدفة صوب بعضنا سنعثر على جمود وهاوية أخرى وجسد آخر متوتر يخفق في الخفاء مثخنا بالجراح. .. 3 .. أقضي الليلة حياة محفوفة بالنار وبشائعة الأيدي التي تلامس الجسد النائمة على سطح المرآة استحوذني التوق المضطرب والخوف من إعادة اختراع كل شيء بعد. .. 4 .. داخل الصمت أعرف كيف أخادع الموت. .. لا .. لا أتمسك بأي شيء أمكث معلقا بنهاية القرن أعلم الأيام لأجل الأبدية لأنه حيث ينتهي الجسد يجب أن تبتدئ أشياء جديدة وجسد آخر أسمع شائعة الرياح اذهبي يا روحي، اذهبي حيثما تشائين. .. 5 .. اليدان خفة اللهب المتوهج تكرران الإيماءات نفسها لتويجات الزهرة لطيران العصافير الجريحة بين هدير الفجر أو تمكثان هكذا زرقاء محروقتان بالعمر القديم لهذا النور غريقتان مثل قارب عند تخوم الرؤية. ترفع مرة أخرى تلك اليدان الضجرتان والحكيمتان تلمس فراغ الأيام الكثيرة بلا رغبة و مرارة الليالي الرطبة والكثير من الجهل والكثير من ذهب الأحلام على الجلد والكثير من الظلام ثم لا شىء تقريبا. .. 6 .. تقف خلال ظهيرة بحرية منقطعة عن العالم الجسد يرفض أخبار العالم وفوق المويجات اللازوردية التي تحرق المؤرق الداني منك ربما لن تكود هناك كلمات أبدا بعد هذه الأبيات الأخيرة الوجه المنسي يضغط الزجاج ماحيا الاسم بين الغبار تشير عوالق الموت الشفافة إلى البحارة المتعبين. .. 7 .. تفتح خارطة أوروبا وتشير إلى المكان المفقود قرب البحر .. والشمس تصعق الحمقاوات وحليب الأمهات الحكيمات يتخثر إلى مذاق العلق والدبال. .. 8 .. في حوض الزهور على النافدة المطلة على البحر وضعت أكياس قرنفل البحارة لتيبس. انبعث الزمن الماطر أشعث وحازما فانتشر بين الأزقة زاحفا إلى الأرواح رذاذ صاخب كثير – أوروبا تبتعد بخيبة أمل، وصوت طبول المياه يرافقها. .. 9 .. هل تتذكر إذن ليلة الجنوح مع بداية البرد القاسي الجسد المتجمد الفاقد لهويته المدن بلا أسماء وحادثة الطريق السيار الرسالة المتروكة في المقهى إنذار الليل، الهروب الأرض ذات الصقيع الأبدي، الرحلة اللانهائية، السكين فوق الحنجرة، والقطارات، الجسر الرابط بين الظلمات الظلمات. وبين البلد ببلد آخر .. حيث قلنا الأشياء التي تقتل وتترك آثارا حديدية في الجفون. لكن، خلال تعب رحلة الرجوع وخلال الإحباط الشامل بقيت خارطة أوروبا مفتوحة على المكان حيث اختفيت. أسمع المحيط الأطلسي يصرخ الفقدان بينما أصابعي تتعب شيئا فشيئا أكتب ببطء مذكراتي .. ثم أغلق الخارطة وأمضي إلى وحشية هذا العقد القاسي..