لا داعي أبدا لأن يتألم الذين يغادرون مواقعهم الوظيفية، إذا ما لاحظوا أن من كانوا حولهم قد انفضوا عنهم وذلك لأسباب عديدة منها أن التحلق الذي كانوا يرونه مرتبطا في غالبيته بما لهم من مصالح لدى صاحب المنصب إن على سبيل التحقيق أو الرجاء والتوقع أن يحتاجوا إليه وهو في منصبه ولذلك فإن تحلقهم حوله ينتهي حتما بتركه للمنصب وإن ظن غير ذلك فهو واهم وإن بقي له أحباب وأصدقاء خلص فهؤلاء عددهم محدود وهم معه قبل المنصب وأثناءه وبعده لأن صداقتهم له لم تبن أصلا على المصالح المادية وإنما على العلاقات الإنسانية ولكن الذي يتحلق حوله المئات خلال تمتعه بأضواء المنصب لا يقنعه بعد تركه أن ينخفض عدده إلى أصابع اليد الواحدة، ولذلك يبدأ في بث شكواه لمن يقابلهم مما يعاني منه من جحود وتخل ووحدة قاتلة فلا يجد حتى من الذين بقوا معه وحوله من يطيق سماع شكواه وإن جاملوه وجاروه وصادقوا على أقواله ولكنهم في واقع حالهم يكونون بين مشفق عليه وشامت به ومتأفف من شكواه إذا سمعه يشكو وينوح قال في نفسه: ليته سكت! وقد درس شاعر قديم هو أبو ذؤيب الهذلي نفوس أهله عصره عندما فقد أعز ولد لديه فقال بيت شعر أصبح يتمثل به من جاء بعده عندما قال: وتجلدي للشامتين أريهمو أني لريب الدهر لا أتضعضع وجاء في قصيدته بيت ذهب مثلا في قوله: وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع! فكيف نجد الآن من يتحسر على المنصب وأصدقاء المنصب ويصب جام غضبه عليهم لأنهم انفضوا من حوله وهل كان «المليح» يظن أن تحلقهم من أجل سواد عينيه وأين كانوا منه قبل المنصب وهل يحتاج الأمر إلى ذكاء وفطنة ليدرك أي إنسان أن معظم ما يربط الناس هي المصالح وأنه نادرا ما تربطهم وشائج أخرى غير المصالح، فمن عرف هذه الحقيقة لم ينظر إلى الوراء ومن جهلها أو تجاهلها أخذ يشكو ويبكي ويتحسر دون أن يأبه به أحد، والحمد الله الذي عافانا من هذا الداء النفسي العضال!.