مما يشنف الآذان تلك الحوارات العلمية التي تجاذبها الخلفاء مع العلماء في سائر المعارف، وأنا أسوق طائفة منها بإيجاز، ترويحًا للنفس وتنشيطًا لها، وهي في كتب التاريخ والأدب والحديث. * فمنها دخول ابن عباس على معاوية في مرضه، فلما رآه معاوية تجلد وأنشد: وتجلدي للشامتين أريهم أني لريب الدهر لا أتضعضع فرد عليه ابن عباس: وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع * وقال عبدالملك للشعبي: كم عطاءك بالنصب -وهو لحن-؟ فرد الشعبي: ألفين. فقال عبدالملك: لحنت يا شعبي. فقال الشعبي: لحن أمير المؤمنين فكرهت أن أخالف. * وذكر المأمون عند النضر بن شميل حديث: {من تزوج امرأة لدينها وجمالها فهو سداد من عوز}، بفتح السين. فقال النضر: إنما هو سداد يا أمير المؤمنين، وسداد بالكسر لما يسد به، قال المأمون: هل على ذلك شاهد من لغة العرب؟ قال النضر: نعم، قول العرجي: أضاعوني وأي فتىً أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر قال المأمون: قبح الله من لا أدب له. * ودخل أبو عبدالرحمن الأذرمي المحدث على الواثق في فتنة القول بخلق القرآن، فقال: أخبروني عن هذا الرأي، أعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم أم لم يعلمه؟ قال ابن أبي دؤاد -وكان حاضرًا-: بل علمه. قال: فكان يسعه أن لا يدعو الناس إليه، وأنتم لا يسعكم؟! فبهت الواثق ومن معه، وترك امتحان الناس بهذا القول. * ودخل ابن السماك الواعظ على أبي جعفر المنصور وقد آذاه ذباب يطير على أنفه، فقال: يا ابن السماك، لماذا خلق الله الذباب؟ قال: ليذل به أنوف الطغاة. * ودخل أحد الشعراء على وزير ذات ليلة، فأراد أن يمسيه بالخير فغلط، فقال: صبحك الله بالخير، فضحك الوزير، فارتجل الشاعر: صبحته عند المساء فقال لي ماذا الصباح وظن ذاك مزاحًا فأجبته إشراق وجهك غرني حتى تبينت المساء صباحًا * وقال الرشيد للأصمعي: لم تأخرت علينا؟ قال: يا أمير المؤمنين ما لاقتني أرض بعدك حتى أتيتك، قال: كيف تقول: ما لاقتني؟ قال الأصمعي كما قال الشاعر: كفاك كف ما تلاقي درهمًا جودًا وأخرى تلقى بالسيف الدما * وقال هشام بن عبدالملك للزهري: من الذي تولى كبره في الإفك؟ قال الزهري: هو عبدالله بن أبي بن سلول، قال هشام: كذبت. فقال الزهري: بل كذبت أنت. والله لو نادى مناد من السماء أن الكذب حلال ما كذبت، ثم ساق الزهري الرواية بإسناده إلى عائشة على صحة ما قال. * وقال سليمان بن عبدالملك لسالم بن عبدالله: ألك حاجة أقضيها من حوائج الدنيا، قال: ما سألت حوائج الدنيا من الله، فكيف أسألها منك؟! * وقال عبدالله بن علي عم المنصور للأوزاعي: ما رأيك في هذه الدماء التي سفكناها، فساق له حديث: {لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله إلا بإحدى ثلاث}. قال: وما رأيك في الأموال؟ قال: حلالها حساب وحرامها عقاب.