بين كبار السن والأطفال تكمن علاقة خفية لم أعرف كنهها بعد، لكن ما أعرفه بأني أحب الجلوس معهم كثيرا، والاستماع، والاستمتاع بما يقولون والتوغل في فكر أصحاب الخبرة العظيمة، وفكر عديمي الخبرة، والتجربة؛ قبل أيام كنت أجلس بجوار امرأة تجاوزت الستين من عمرها، كنا نتحدث عن الموت بصفته الحقيقة المطلقة الوحيدة التي لا جدال فيها، وبصفته النهاية الحتمية، والمرتقبة، لمن هم في مثل سنها وأكثر. كما جرت العادة، ولو كان في بعض الحالات يخون تلك العادة، ويخطف الصغار! أخبرتني بأنه قديما كانوا يدفنون موتاهم في غرف مبنية تحت الأرض، ولها شيء يشبه الباب، فكل مرة يفارقهم حبيب أو قريب يفتحون ذات الغرفة التي تقبع بداخلها عظام آخر توفى سابقا، ويزيحون قليلا العظام ليترك مساحة للضيف الجديد، وبلا أي شعور بالضيق ولا الاستياء يتشاركون ذات المكان أكثر من شخص، حتى يمتلئ تماما ببقاياهم ثم يغلق للأبد وتحفر غرفة جديدة! في كتاب «كائن يمرح في العدم» يتجلى فيصل الحبيني وكضيف قادم من العدم، لم يفتح الوجود له يديه، ولم تحتضنه الحياة، لقد اكتفت بمراقبته بينما يبحث عن مخرج منها، على الرغم من معرفتها بوجود مخارج الطوارئ الكثيرة التي قد تنقذ ذلك الكائن الذي كان يمرح في عدمه قبل أن تقذفه الحياة للوجود على شكل ولادة (حسب تعبيره في الكتاب) لكن الحياة آثرت الاستمتاع بمشاهدته كل ليلة، وبرفقة البوب كورن والكولا تتابع آخر تطورات هذا الكائن، وانتقالاته من مرحلة لأخرى في محاولات العودة للحقيقة التي عرفها في عدمه، تفعل بنا الحياة جميعا ذلك! يقول الحبيني: «الموتى آمنون. لن يعتدوا على قبرك، رغم أنك لا تحرسه. ولا يذبحون ولا يستعبدون ولا يعذبون. الموتى عظماء. لن يزعجوك بحياتهم الطويلة التي خاضوها. لن يفتخروا ببطولاتهم، ولن يبرروا إخفاقاتهم. لقد تفوقوا على المجد والشرف والجاه والحياة، وارتقوا إلى الموت. لا شيء يعنيهم. إنهم المصطفون، خريجو الحياة. الموتى، هم مجد الله» أخبرتني تلك المرأة عن قصص من دفنوهم أحياء، ولم يعرفوا ذلك، بسبب جهلهم بأبسط أمور الطب، وهي متابعة النبض في الوريد أو في عروق اليد! بعضهم أنقذه صراخه من تحت التراب، والبعض الآخر حالفه الحظ فاستيقظ حين صبوا الماء على رأسه، أما القصة التي وقفت عندها كثيرا تأملتها بكيتها، وحاولت أن أعيش بداخلها وفشلت، روت لي المرأة عن ميت في قريتهم ذهب به الرجال لدفنه في غرفة قديمة بها من العظام الكثير، ولا يزال هناك متسع لضيوف جدد، تزاح العظام القديمة لتحل الجثة الجديدة. بينما هم كذلك وجدوا ميتا سابقا يبدو أنهم قد دفنوه حيا، كان يجلس يحتضن ركبتيه على صدره، وارتاح ذقنه على الفراغ بين الركبتين، إلى الأبد. كان يجلس بهذه الوضعية البائسة اليائسة لا ينتظر أحدا كان كمن يتأمل لا كمن ينتظر، كجريح من الوجد، أو متعب من الفقد، لا كمن سيموت بعد أيام، كان أسفل ظهره يلتصق بجدار غرفة الموتى بينما كتفاه إلى الأمام تنحنيان ليتمكن من احتضان نفسه جيدا، فلا أحد هناك ليلملم له شتات نفسه، ونهاية مشواره في الحياة فوق الأرض، كان وحده تحت الأرض، بجواره رفات، وبقايا بشرية، يبدو أنه يأس الخلاص فكان يتأمل الموت، يتخيله، وينشده أكثر من أي شيء آخر، المساحة لديه كانت تسمح له بأن يتحرك يصرخ يضرب الباب بشدة لكنه اختار العدم، وكشاهد من الأحياء على وجود هذا الخيار، لا حياة لا موت. العدم وحده سيد الموقف، والعدم وحده ما أبقاه بدون طلب نجدة من أحد، حتى حل الموت أخيرا بالغرفة التي تحت الأرض يرافقه فيها عظام من سبقوه بداخلها! وجدت في كائن يمرح في العدم هذا الشخص الذي دفن حيا، كانت كل كلمة في الكتاب الواقع في مائة صفحة تعبر عن عدميته، ورغبته الجادة في أن يصبح عالقا بين الحياة والموت، بين الدنيا والآخرة، بين النهار والليل، بين النور والظلام، اختار أن يبقى في المنطقة الوسط، اختار أن يمرح في العدم! وبعيدا عن الكاتب، نتناول الكتاب كفكرة وكمذهب فلسفي، نتناول العدمية كأسلوب حياة خلاق على الأقل (في اعتقادي) لأن العدمي يرى أن لا وجود له بالتالي لا وجود للآخرين إذن لا داعي من اللهاث وراء الحياة والتعدي على الناس وسلبهم ما في أيديهم أو حتى سلبهم حياتهم لأي سبب كان، العدمي يعيش على أقل الإمكانيات المتوفرة، فلا خوف حقيقي منه فليس من ضمن اهتماماته -المعدودة جدا- جمع مال أو جاه. يتساءل الحبيني: «السؤال الحقيقي الذي علينا أن نسأله حقا، ليس ما إذا كانت هناك حياة بعد الموت، بل هل يوجد، حياة فعلا، قبل الموت؟». هذا السؤال الذي يقع في الصفحات الأولى وكنت أتمنى لو كان في الصفحة الأخيرة وكختام لكل المهازل الحياتية التي نشهدها يوميا، هل من حياة قبل الموت؟ ليتركك الكاتب وحيدا مع السؤال، تبحث عن الإجابة فتتقافز إلى ذهنك صور الحرب، والدماء، والكراهية، والعنصرية، والجوع، والشتات؛ لتعود إلى زاويتك وحيدا وتسأل نفسك: هل من حياة حقا؟ في كتاب الحبيني الذي قسمه إلى أربعة أقسام وجود، غبار، ملل، عدم. تقبع بين الأسئلة أسئلة، وبين الكلمات خبئت أخرى، تجد نفسك في الكتاب أو بعضا منك، لكن لا يمكنك بحال أن تقرأه ثم تعيده في مكانه بين كتبك التي تنتظر دورها في المكتبة، لتأخذ آخر، كائن يمرح في العدم يبقى معك، يعلق في فكرك، وتجد عقلك يتفتق عنه آلاف الأسئلة بلا إجابات، يتحدث عن النفس البشرية وما تحمل من متناقضات، من حمق ومن عداوات غير مبررة، يتحدث عن الاختبار الذي أخفقنا فيه جميعا وبجدارة! أختم مقالي بآخر سطرين من الكتاب يقول الحبيني: «يتملكني حنين للخاتمة. توق للوصول. للانتهاء من المضي. للوقوع على ركبتي، وسماع صوت من الأعالي يربت على روحي: لقد أنجزت مهمتك يا بني».