عندما يبدأ الوعي تبدأ المأساة.. لاسيما حين يدرك تلازم وجهَي الحياة والموت قامت النصوص على محاولات تجريبية شكلية كتوظيف اللغة الإنجليزية في رحلة الوعي تبدو حياة الغابة أكثر قانونية ومنطقية من همجية البشر والحروب لماذا نحيا؟ وما قيمة كل ما نراه وندركه حولنا؟ ما هو مسار رحلة آدم وحواء منذ هبوطهما من الجنة لبدء حياة أرضية؟ وهل يستطيع الإنسان إضفاء معنى على وجوده؟ وهل يملك تغيير مساره؟ بين الماضي/ الحاضر/ المستقبل تتحرك مسيرة الإنسان ومعها السنن الكونية وحركية الكائنات الأخرى. وبين الولادة والموت تتجسد مسيرة الإنسان، وعندما يبدأ الوعي تبدأ مأساته، لاسيما حين يدرك تلازم وجهي الحياة والموت، الموت الفردي وإن تأجل. وقد ذهب الفلاسفة منذ القدم إلى أن الموت موضوع ملتبس لا يؤدي الخوض فيه إلى نتائج محددة، هو «اللاشيء» كما في منظور شيلينغ، وهو تسمية معتمة للمجهول، مقاربة للعدم وليست مرادفة له. من هنا فإن مقاربة الموت تعني –بشكل ما- مقاربة الحياة ووعيها، وحين يدرك الإنسان حتميته ينعكس ذلك في إبداعه وجعاً حاداً وشعوراً مأساوياً وقلقاً لا ينتهي مع إحساس تام بالعجز واللاجدوى. معنى الموت غلاف مجموعة نصوص الثبيتي إن مقاربة نصوص «القبر لم يعد مكاناً آمناً» هي مقاربة لفلسفة وجود تستند إلى اللامعنى الكامن في حدث الموت، في محاولة للوصول إلى معنى ما، ورؤية للحياة بعيني فرد يشعر بعبثية ما يجري فيها، وهمجية الفعل الإنساني تجاهها. من هنا كانت نصوص الوعي الحاد بالعبثية والإحساس بالعدم وبالعزلة والانفصال، هي نصوص تشي بالرعب والقلق الوجودي الذي يرى أن الحياة ليست لها أي قيمة والذات بما هي كينونة فردية ملقاة في عالم غريب وموحش. هنا يبدأ فهم الوجود بمعايشة الواقع وجدانياً ليتم اكتشاف معنى الوجود الإنساني: العدم أو الفناء، الوحدة واليأس والعبثية، حيث الإنسان الضائع الذي لم يعد لسلوكه معنى في الحياة المعاصرة. البشر يتصارعون، وكذلك الكائنات بشكل عبثي لا معنى له. الحياة الأخرى ماجد الثبيتي هذا الإحساس بالقلق يتجسد في مجمل النصوص بدءاً من عنوان المجموعة حتى نهايتها. فإذا كانت هناك فلسفات واعتقادات ترى في الموت خلاصاً ووسيلة إلى حياة أخرى دون ألم، فإن العنوان يجسد حالة من القلق التي تفتقد الذات فيها إلى الإحساس بالأمان، حتى القبر لا أمان فيه ولا راحة، لاسيما مع ارتباط ذلك بعذاب القبر والوصول إلى الثواب والعقاب بما يصاحب ذلك من الإحساس بالمجهول وعدم معرفة حقيقة ما يجري هناك. ومع شريط التسجيل الذي يتوسط صفحة الغلاف، والذي يبرز في الشريط الأسود بلون واضح يبدو أقرب إلى عينين، يأتي الوعي بداية بالرؤية التي تظهر لاحقاً في النصوص (في الحقيقة، عندما أغمض عيني، أرى). من جهة أخرى هو وسيلة توثيق لأقوال المتكلم –كما هي الكتابة– وهو وسيلة سماع لما يرغب فيه الإنسان، وقد يكون ملاذاً في حالة الإحساس بالوحدة. كما يمكن أن يحيل إلى عدد من التسجيلات الصوتية التي تتحدث عن الموت وعذاب القبر، الأمر الذي يعمق من حالتي الرعب والقلق. رحلة مؤلمة هي رحلة الوعي ورحلة الحياة والوجود، ومن هنا كانت البداية مع اللحظات الأولى/ لحظة الولادة والتكون (النطفة) والوعي. لحظة النطفة/ لحظة الولادة كلتاهما رحلة والطريق مؤلم، فهما خروج وانفصال موجع عن الرحم، حيث يبدأ القلق وفقد الأمان. في هذه الرحلة تكون حياة الغابة أكثر قانونية ومنطقية وحرية، لكن التصور هنا ليس رومانسياً يحمل رغبة في الهروب إلى الطبيعة بقدر ما هو تصوُّر وجودي يضع الإنسان أمام مسألة وعي وجوده، هذا الوعي الذي ينفتح على همجية البشر والحروب والدمار، الوعي بلحظة الاختيار، فكل إنسان يختار طريقه بصورة ما (رسم نافذة داخل نافذة أخرى) أو اختيار الانتحار (ملاحظة شخصية/ افعلها يا رجل) (انقر فوق «موافق» لإنهاء هذا البؤس والعار والسأم والحياة التي تعيشها هكذا). وإذا رأت الوجودية أن الإنسان صاحب تفكير واختيار، وعليه تقع مسؤولية وضع القيم الخاصة به فإن العدمية الوجودية تظهر هنا في الإحساس باللاجدوى ومن ثم اختيار الموت. رؤية سوداء مما سبق تغلب على النصوص سوداوية الرؤية وإحساس بالعدمية، فالفرد يعيش عزلته (ولكنه مع ذلك بمفرده، ومع هذا العالم لا أحد معه)، والحياة نظام خانق (بألف يد حول الرقبة) ويغلب عليها (حضور الموت لا يمكن أن يغيب في هذا الكون لحظة واحدة)، إلى درجة أن الموت يصرخ (لقد شبعت). ومن هنا تهيمن مفردات الموت المباشرة والمفردات المرتبطة به: الغرق، النهايات، الانتحار، الحرب، الرصاص، السقوط، الانكسار، العدم، السأم، الضجر… إلخ. وتهيمن العدمية والإحساس بالعجز كما في نص (مثل رصاصة في الرأس): السفن التي غرقت، الشجرة التي تلد الظلال لن تموت مطمئنة، الإنسان ينجب ويعمل لكنه لن يموت مرتاحاً مطمئناً، الفكرة تسقط وتنكسر، والسعادة زيف، والإعلان عن العيش بسعادة هو تلاعب في اللفظ يُخفي الحقيقة (لقد كنت سعيداً بالعيش معكم. لكن الإشارة في هامش النص تقلب المفهوم، إذ تقر بوجود تلاعب في الألفاظ في الأصل). بالتالي فإن كل ممارسات الحياة هي مجرد وهم وخداع من الإنسان لنفسه، ولا يبقى غير اللجوء إلى الموت والاستسلام له (رأيته ميتاً، أنا من هذه السلالة)، (جهنم تلائم هذا العالم الشيطاني – تلائمه تماماً، أعماقها العدمية تمت خياطتها على مقياسه المشوه)، (إذا ما دخلتِ مساء إلى القبر/ لا تغلقي وراءكِ الباب) فيصير القبر ملاذاً ومسكناً، ونار الجحيم للتدفئة، والأمر مسألة وقت ويمكنك التعود على كل شيء (نص: «بفتح العين» على سبيل المثال). إعادة الفهم الإحساس بالعدمية لا يعني –كما يرى جوتفريد بن– مجرد بث اليأس والخضوع في نفوس الناس، بل هو مواجهة شجاعة وصريحة لحقائق الوجود. وتلتبس المواجهة بالسخرية المُرة التي ترتبط بإدراك التحولات المصاحبة للحياة المعاصرة، حيث تهيمن الآلة والتكنولوجيا على حياة الإنسان، فيتحول إلى شيء أشبه بالرجل الآلي أو بالكمبيوتر، وحياته بيانات وملفات قابلة للحذف، ويعيش الخوف أمام نسيان كلمة المرور، وبالتالي البقاء خارج العالم وفقدان كل شيء دون تعويض (خطأ في النظام). وحيث تهيمن التكنولوجيا على الحياة فتختفي العلاقات الإنسانية، والأسرة تتسمر أمام شاشة التلفاز التي تشكل كلاً منهم على طريقتها، في حين تسجل حياة الإنسان على طابعة. هكذا تنقلب المفاهيم وتبدأ النصوص محاولة لإعادة تأويل التراث وإعادة تأويل العلاقات والأفعال: و«لو» (تفتح للشيطان لحظة حرة) و(تجعله غير عابئ بالنهايات). تتحول الأمومة إلى غضب وإحساس بالعنف (العنف الأسري؟ / تجيب الأم الغاضبة: / الجنين هو من بدأ بذلك)، (بتلك الطريقة التي أنجبته بها، كيف للطفل أن يحترم أمه)، فيتكثف الإحساس الوجودي بالوعي المصاحب للألم حيث الحياة (مشوشة مثل اللامعنى)، ومشوهة تترنح تحت وطأة السأم و(كثير من الفزع عند اكتشاف الحقيقة، حقيقة أن هذه الحياة تنسلُّ ما بين الأصابع دون انتباه بسرعة وبلا متعة مع الأسف)، فتغدو البلاهة نعمة لأنها تحمينا من «فهم الموت على وجه كامل»، إذ يقود الوعي إلى الذعر، وإدراك أن نزول آدم جر الوحشية والحكم على الإنسان بالموت في دورة لا تنتهي لتكون المسافة بين الحفيد والجد الأول مملوءة بالحجارة والأشواك (مرة أخرى، وينزل آدم وزوجه من الجنة، ونبدأ من جديد). مفارقة وغرابة وإذا كانت الحياة مملوءة باللامعنى فإن الكتابة عنها يصعب أن تأخذ الشكل المألوف والمنطقي المتسلسل، من هنا جاءت النصوص قائمة على صور مملوءة بالمفارقة والغرابة والقبح، وقامت على تشكيل علاقات جديدة لا تعتمد المشابهة بقدر ما تركن إلى المفارقة وإعادة تكوين العلاقات بما يتفق والوعي العدمي بالوجود مثل: شرشف متسخ بالحياة، والأولاد يحز رقابهم النمل المتوحش للعشاء الأخير، ثعبان يهذي في لحم الفراشة، زجاج الجثة لا ينكسر مرتين، النوم أو الأبدية مسلوخة الجلد، أسنان تأكل نفسها بشراهة، صوت الموسيقى عند اقتلاع العين.. إلخ. محاولات تجريبية إضافة إلى ذلك قامت النصوص على محاولات تجريبية شكلية كتوظيف اللغة الإنجليزية، وشكل الكتابة الرقمية القائم على سطور متفرقة قصيرة جداً (retweet، النمل آكلة اللحوم). وبناء النص على مقاطع مرقمة يمثل كل منها لحظة أو مشهداً يتكامل في النهاية لتتضح الصورة وتكتمل الرؤية (رسم نافذة على نافذة أخرى، الحياة من دون مجاملة)، أو اعتماد عناوين فرعية (خطوات التعامل مع مريض انتحاري، سفينة نوح عليه السلام). ويعلن الكاتب نية التجريب حين يعنون مجموعة من النصوص «تجريب (أ)» وبعده عناوين فرعية، يجرب في كل منها آلية مختلفة: النص الأول يقوم على تكرار «بلا» التي تنفي جمالية الأشياء وتؤكد هشاشة الحياة وعدميتها أمام الموت، وعلى تكرار جمل اسمية قصيرة متلاحقة تتناغم مع سرعة إيقاع الحياة باتجاه الموت دون منطق. (نظرة أخيرة قبل الدفن) يقوم على تكرار لازمة «مضيعة للوقت» التي تعمق الإحساس باللاجدوى، حيث تتساوى قيمة الأشياء سلبياً، وكل فعل للحياة يغدو دون قيمة أمام القدر (كل شيء مكتوب بهذه الصيغة وعلينا تطبيق الخطوات بهذا الشكل). النص الثالث يستوحي لعبة الكلمات المتقاطعة (أفقياً/ رأسياً) لينتهي عموديا/ رقم (10) بنفي الوجود وزواله، حيث يذوب الآخرون في نهر الوجود. التجريب الأخير هو الكتابة تحت تأثير عقار الهلوسة، ويأتي في جمل قصير جداً متفرقة وغير مترابطة، ويبدو بعضها مبتوراً ينقص فيه أحد طرفي الجملة، وينتظر تأويلها من المتلقي نحو: قشور السعادة، مطر متعدد الاستخدامات، رائحة الشواء الحزينة، قاع الكلمة.. حيث تأتي كل جملة على سطر منفصل بشكل يوحي بالعبث ونقص الحياة كنقص الجمل وتفرقها. تساوي الأشياء هكذا في وجه اللامعنى تغدو الكتابة تجريباً، وتفقد بدورها أهميتها وقيمتها (أنا صرخة الزجاج عند ملامسة الجحيم. والآخرون يذوبون في نهر الوجود من دون أثر.. ومن دون أثر لا وجود للكلمة) عندها تتساوى الأشياء في رؤية عدمية تفقد الإحساس بمعنى الوجود في الحياة المعاصرة، ولا يبقى إلا صرخة تحاول أن تطرح أسئلتها الوجودية وتكتب قلقها وخوفها وعزلتها أمام مصيرها الحتمي، وتعلن أنه لا ملجأ للإنسان ولا أمان حتى في القبر الذي يغدو معادلاً للحياة بكل همجيتها وقسوتها.