عندما كتب الروائي أحمد أبو دهمان روايته الأقصر والأشهر (الحزام) منذ ما يزيد على عقدين، لفت العالم إلى بيئة إنسانية، وشد الانتباه الأوروبي إلى نخوة القرويين وفزعة القروي العاشق كل يوم إلى الإنتاج والحياة والعمل واحترام الإنسان والحب والرقص منذ مطلع الفجر، عندما يبدأ بشد حزام على وسطه يغرز فيه أطراف ثوبه ويسند به طوله ويشد صلبه حتى لا يتأثر من شدة الانحناء عشقا على أمه الأرض حتى مغيب الشفق الأحمر، ليدشن مع الليل والقمر والنجوم والسماء أغنية راقصة وإيقاعا يخفف ثقل الروح. في عسير، ولد ونما وترعرع بطل أبو دهمان المتيم بالبيئة والتضاريس والطقوس، وبالعمل كتب ما أثار به فضول وشوق الآخرين إلى التعرف على المكان والمشاركة في المناسبات الفولكلورية وأكل الرغيف الخارج من رحم النار والرماد. كانت الرواية الصغيرة الكبيرة رسالة سلام وتواصل مع الآخر محليا وعربيا وعالميا، ذلك أن القرى الزراعية والرعوية أكثر تصالحا مع ذاتها ومع ما ومن حولها متى منحت الفرصة للتعبير عن نفسها دون تدخلات أو تعديلات لجيناتها التراثية الأصيلة والنقية. والقرية أبلغ من يعبر عن الوطن، ذلك أنها تقوم على التوطن والاستقرار والأمن والتكافل، والتعامل القبلي يعتمد كثيرا بل وكليا على الأنسنة ومنع الأذى على البيئة أو التطاول على الإنسان ومن يخالف سلوم وأعراف القرية والقبيلة يعرض نفسه للمقاطعة والتعزير. القرويون صورة حية للتكافل الاجتماعي متساوقا مع حياة الناس الفطرية، والبراءة حاضرة قبل أن تشهد القرية تطور الأحوال والانتقال من شرط تعرفه إلى شروط أخرجتها من بئرها الأولى وألقت بها في تيه التمدن الفوضوي تارة والعبثي تارة أخرى والمنضبط أحيانا ببركة ما تبقى من أناشيد الأجداد البيض، تلكم القرية التي شد بأهلها (سكين) حزامه والوادعة في قمم قريبة من السماء، والمسكونة بالشوق إلى صباحات باسمة، والمتخمة قلوب أهلها بالطيب والأنسنة وقعت بالأمس القريب ضحية فعل غادر ومروع من خلال (حزام) ناسف ودموي لطخ بحمرة الأبرياء جدران بيت الله ليبقى القاني شاهدا على جريمة لم تكن مألوفة في عسير ولا في الوطن بأكمله، والكل يتساءل: من أين جاء هذا الداء والوبيل، ومن يقف وراءه وماذا يريد بمجتمعات ووطن خيرهم للجميع، حزام الفئة الباغية (مميت) ومناقض لحزام أبي دهمان (الحي) الذي حفظ للقرية ذاكرة وللوطن النقاء وللفكر الأنسنة التي نفتقدها اليوم ونبحث عنها.