حين نستحضر الجزيرة العربية تبدو مثل كائن خرافي يتوارى تحت رمل الصمت الطويل وتوشك خصائصه الفريدة أن تتعرض للانقراض في خضم التسارع للتحديث ، وإن المحاولات لبعثه تتلاحق وتتأكد على يد كُتَّاب الرواية ، الذين تتنوع تناولاتهم ومحاولاتهم للبعث بين قلب وأطراف هذا الكائن ، ولقد افتتح هذه المحاولات الاحيائية كاتبنا أحمد أبو دهمان ، الممتد بين قارتين والذي يوحي بأنه لا يرى بزوج من الأعين وإنما ببصيرتين ، مجهر الغرب وبصيرة الشرق ، لذا رأى مبكراً وفتح الباب لمحاولات الإحياء ، وهو لا يزال موجوعاً بما كتب و بما لا يكف يتلاحق لبصيرته ، و يتريث قبل أن يقول جملته القادمة الأقرب للاعتصام . أحمد أبو دهمان بجرأته ،وبسلاسة أسلوبه الروائي السهل الممتنع بدأ بنطاق هذا الكائن ( الجزيرة) متناولاً لخاصرته و مشرعاً للحزام ، و الذي يُذَكِّر برواية ( الهاخاديتو أو البابا الأخضر) للكاتب أستورياس ، الكتاب الذي لا يتجاوز الأربعين صفحة واستحق استورياس عليه جائزة نوبل ، لأنه يختزل جمالاً لا يُطاق . لرجال الحزام جمال يؤرق و يتكاثف في جمة على الرؤوس ، ويَتَعَلَّم مَفْرَق الأب المعجون من طين وسماحة بكيات النار بينما ترقص قدماه على طلقات البنادق ، يغني أبو دهمان حزامه في المحافل و يثير زوبعة من الكادي وعبق شجر الإثل ، في آثاره يحيا آل خلف . ثم جاء عواض العصيمي في روايته قنص الصادرة عن دار الجديد فأخذ حفنة من رمال صحاري الجزيرة ليبث فيها الروح . والآن يأتي يحي السبعي بروايته ساق الغراب ( الهَرَبَة) الصادرة عن دار الآداب طبعة أولى عام 2008 ، ، ليُنقذ من الانقراض ذلك الجزء من سلسلة جبال السراة المهيبة ، والتي تختزن أساطير تنجو منها أسطورة وادي الحسيني بعاصمته قرية عصيرة . تباغتك ساق الغراب بعوالمها الفنتازية ، عوالم أقرب للخرافة ، لكنها خرافة معاشة في بقعة من الأرض يحتفل بها الإنسان والحيوان و النبات بالحياة ، ببساطتها و فطريتها الخلابة . في عصيرة ما قبل الهربة لم تكن ثمة قيود ، ينطلق السبعي في تصوير قصائد مغناة و حوارات و احتفالات عصيرة بأحداث صغيرة مثل الختان والحصاد و ليجعل منها عرساً وجودياً ، و ينطلق من واقع يفوق الخيال ، تسعفه اللغة حيناً و تخونه حيناً ، كما دأب اللغة أن تخون بمواجهة ملاحم الحياة ، لكنك لا تملك إلا متابعة القراءة للاستزادة من ذلك السحر ، لتنتهي مُحَمَّلاً بالحزن ، تجاه هذا الوجود النقي المرح ، والذي كان محتماً عليه الانقراض في عالمٍ يتحوَّل للآلة و للاستهلاك الجشع و لتكريس السدود بين البشر أنفسهم و بينهم و الكون . في الهَرْبَة يقوم السبعي بتهريب زمنٍ يُخفي الأبطالَ تحت عروش العرافات اللواتي لا يشخن مهما تقدم بهن العمر ، و تمثلهن صادقية أم الشيخ عيسى أبو الخير شيخ عصيرة ، و زوجة الشريف مشاري ، رجال تخضع لقيد الشرف لكي تضلع في رؤيا المرأة الأم التي تتجازو المرئي ، و لكي تخلق آتياً يتجاوز التاريخ . يحيى السبعي لم يكتب بقدر ما قبض بيُسرٍعلى حفنةٍ من تاريخ جبال تَسَمَّتْ بعسير لمنعة رجالها و عسر الاختراق إليها ، لكنه اخترق بشغف ينتفي معه العناء و التلجلج ، و ربما ظل فعل القص لديه يتراوح و يدور حول قمم في روايته ، ليؤكد على غرابة و مرحٍ عالم لا يَتَحَرَّج من الحياة و لا يُجَرِّمها ، يستحضر رجالا و نساء في فطرية ساحرة يتبادلون النكات عن الجسد والعشق و الفحولة ، بصفتها خبزاً يومياً لا يستوجب التجريم ، إذ لا يعود في ساق الغراب من جريمةٍ غير جريمة التآمر مع الغازي ، و تسليم السماحة ليُذْبَح كبشُها بيد التشدد ، و تكريس القراءات المغلوطة للورع و التدين ، مما يحوِّل الدين عن دوره كغذاءٍ للروح ليصير مضاداً للحياة . وفي البديل الخالد الذي تطرحه الكتابة ، نجد أن ساق الغراب و عصيرة خصوصاً قد صارت الآن بمنأى عن الانقراض ، كما قبيلة آل خلف التي خلدها أبو دهمان . و بصرف النظر عن تماسك بنية الهَرْبَة الروائية ، و التي تُترك للنقد المتخصص ، فإن سحرية الهَرْبَة تحيل اليومي لطقس أسطوري ، تتحسَّر كقارىء و كعاشق للجزيرة على انقضائه بأبطاله ، و على فتية يمارسون ختان أنفسهم دون أن تختلج لهم ساق أو يطرف لهم جفن ، ليخترقوا بوقفتهم الصامدة تلك لقوى باطنية تصوغ مادة البطولة فيهم ، و تجعل من المرأة قريناً سحرياً يحتضن تلك البطولة ، و تأسر متلقيها ليحتفي بها بصفتها توثيقاً لتلك الخصوصية الفريدة في وادي الحسيني . تتمحور رواية ساق الغراب و تدور حول ثلاث نوازل استغرقت ما يقارب العقد و نصف العقد من الزمان ، نجحت في إحداث الانقلاب الدرامي في تلك المنطقة المحمية بتضاريسها الوعرة . كان أول تلك النوازل حادثة الهَرْبَة ، حين فَرَّتْ قبيلة عصيرة بوجه الجيش الغازي ، و ثانيها رحيل البطل الخرافي بشيبش يطارده اليأس من واقع قبيلته المستسلمة لامحالة للغازي ، مما سمح بثالثها و هو دخول المقرىء للقرية ، و قلبه للمعايير و استهدافه للرمز ، أو لجذور المرأة الممتدة من الأسطورة لإدارة الواقع ، و ما تبعه من التفاف شيوخ عصيرة على أنفسهم ، و حصر ممتلكاتهم ، و جمع أموالهم ، و إيداعها مع وثائق الملكية بمكان خفي لا يعلمه أحد سوى المرأة . المرأة هي المحور في تلك النوازل فهي التي تنبأت بطوفان التغيير و ناشدت الرجال مقاومته ، و هي التي أخفت و احتوت البطل و تعهدت ابنته شريفة التي تيتمت ، و هي التي أحست بخطورة المقرىء ، ثم هي التي ستؤتمن على مستقبل و نجاة عصيرة ، إذ تتكفل الأم صادقية و جاريتها زهرة بثروة عصيرة ، و تُبعث الجارية لإخفاء تلك الثروة المحشوة في جلد بعير ، تغادر بها القرية لمكانٍ مجهول ، حيث تقوم بإخفائها لكي يتم الرجوع إليها بعد مرور طوفان الغريب ، و لاستخدام ذلك الكنز في شراء و استرجاع الأراضي التي قالت نبؤة الأم بأنهم لامحالة سيفقدونها للغريب المتمثل في الإمارة . تفاجئك ساق الغرب بتواجد عصيرة و تناميها هذا حول المرأة ، و التي تتبلور بحيوية دينامية مغيرة ، تبدأ بالأم ، و تنتهي أو تُبعث على يد الطفلة شريفة و التي نضجت في زمن الرواية .. و في المشوار بين المرأتين تمتد حياة يومية يتخللها الجمال و الانسجام بين المرأة و الرجل ، و بينهما والطبيعة ، لتكون الوسيط بين الثلاثة ، الموقع الذي يُخَوِّلها أن تكون عنصراً قيادياً ، فالأم صادقية ، زوجة الشريف مشاري و أم الشيخ عيسى الخير ، قد حكمت بلاداً كثيرة و صار بوسعها قراءة مستقبل ساق الغراب ، ( لم يغب عن الأم تخاذل هذا الجيل ، بعد أن كان عِرْقهم الأول في العالمين ذا سؤدد جبار.) رؤيا أحرزتها صادقية بقواها الروحية الخارقة التي اكتسبتها من أخوالها الجن ، و دفعت ثمنها غالياً حين تنازلت قبل أربعين عاماً عن بصرها للقوم الموالين لقاء قوامتها عليهم و على وادي الحسيني ، و حين بلغت فأمرت ابنها بالموت لتُقايض بجثمانه نظير عودة بصرها . تبلغ في نهاية الرواية أن تسترد بصرها دون أن تخبر أحداً ، (ترى ظل شخص كانت لا تعرفه طوال عقود خلت إلا برائحته و صوته .) تستغرقك تلك الذاكرة التي تتحرك بثراء و بعمق تحمى في طويتها عنصر الخلاص ، أو عنصر النفاذ للمستقبل ، إذ يتمثل الخلاص للسبعي في رمز شريفة ، الطفلة التي ولدت من نسل البطل بشيبش و ماتت أمها في ولادتها لتتعهدها الأم صداقية ، و تُسند تربيتها لهدية زوجة الشيخ عيسى و في بيته و حماه .و يُحَمِّل الكاتب شريفة عصارة الشغف الذي يحمله لقريته ، ويحرك الفتاة في فضاء الرواية يطلقها لتستقي وتروي عن الطبيعة الجبلية وتترقى بين العوالم القدسية للأم الأسطورية و درايتها بمواقع النجوم و احوال الطقس و الأرض ، لتكبر و تحمل عن الأم تكاليف قيادة القبيلة ، زراعتها وحصادها و ميزانيتها المالية ، و يجسد الكاتب شريفة كخلاصة الرجال العظماء الذين انسحبوا تباعاً و جاءوا لشيخهم يستأذنونه في الموت ، و يسلمونه ثرواتهم و أراضيهم ، كما يسلم السبعي ثروات تلك الذاكرة متمثلا واقع قرية عصيرة حين استسلمت للإمارة و أبيدت أمجادها العريقة . يهيىء الكاتب للدور الختامي الاحيائي الأخير في الرواية ، حين تقرر الأم أن تموت موتاً بليغاً ، فترسل جاريتها زهرة لكي تهيئ شريفة للنفاذ من موت عصيرة لآتٍ هي الوحيدة المهيأة لتخليقه من جديد . فيختتم السبعي روايته بطقس الجارية زهرة في إعدادها لشريفة ، تعريها لتكسيها كسوة أرسلتها لها الأم متمثلة في ثوب يُربط على خاصرتها ينضح بالدم الحي : (نضت عنها الجارية ثوبها لكسوتها و فرقت بين ساقيها و قليلاً عن فخذيها ، فتأرجَّت نفحة لا يمكن أن يكون مبعثها ناتجاً عن تفسخ خيوط الدماء المتلاصقة ، كانت نفحة أشبه برائحة لبِّ شجرةٍ طيبة قد تم رتقه إلى نصفين ، و سلكت شرخه الريح ، فقد عم محيط العشة عبق فريد لا يتسنى لأحد أن يتنشقه إلا و يخطر بباله نبات زكي اغتسل بالمطر ، و راح في العراء النقي يطلق شذا أعماقه .راعت شريفة تلك الرائحة ، و بدأت تسول لروحها بأنها كائن خرافي) ، تدرك في خاتمة الرواية أن تلك الرائحة الطيبة بين ساقي شريفة هي الرائحة ( التي لا تميز سوى رجال عصيرة الأوائل ، فهي تخرج من أُزرهم المسبوغة بصلب السدرة الزكي) ، تهتف شريفة : (نعم هذه هي رائحتهم أحملها بين فخذي من شهور .. أني بنت أرضي و رجالي .. إنها الرائحة الوحيدة التي تُميزهم عن بقية رجال كامل المِخْلَاف . ) ، تستسلم شريفة لأسطرتها : (و أجهشت في بكاء يجلله الفخر بنفسها . و إن لم تكن بنت بشيبش فهي الباقية من هذا التراب ، و اسمها الذي أرادت به الأن أن يُقصي عنها شك المريبين في دمها و عرقها ، اسمها من شرف الأرض التي التقطت منها ...) لذا يجيء تختيم ساق الغراب بإهداء الكاتب : ( للرجل الذي مزقوا قلبه بويل السماء ، فيما الله يسلمه الشعلة كاملة ، أبي ) حيث هذا الأب من أولئك الرجال الذي غابوا و غيبوا نكهة الأرض . ( و لأغانيهم العظيمة ، مائة سنة يحكونها ، وثلاثون عاماً لأُنشد بين يدي العالم ، هذا القليل من تلك الأغاني الكبيرة ، إجلالاً لهم سادة الضوء إلى السماء اختياراً: محمد الذروي ، عبد الله هبّاش ....) و يسرد ثمانية و ثلاثين اسماً من أسماء رجال و نساء .. و يبصم بتوقيعه: ( يحيى إمقاسم ، بعيداً عن الحسيني ، 2007 : ولدت شرق صبياء ، بمنطقة جازان ، جنوب غرب الوطن المملكةالعربية السعودية ... و المؤكد أنني وُلِدتُ يوماً ما ، و لم أغادر مثلهم اختياراً ..) يوضح (يحيى إمقاسم) ، أن ( إم ) تدخل على الأشياء ك ( ال) تعريف في تهامة ، و في الجبل تدخل على أسماء الأشخاص ، ( و كان جدي يُحارب في الجبال و هو الوحيد الذي يُنادى بهذا الاسم ) ، استحق الجد ( إم) التفرد و البطولة هذه بنضاله ، كما استحق إمقاسم سيرة هذا الجد بقلمه ، يسجلها في شبه موسوعة لأساطير الحياة القروية و القبلية المندثرة ، بذا يختار أن يكتب لكيلا يغادر ، يحفر تاريخ عصيرة و وادي الحسيني و يخلد به في ساق الغراب .