حين يذكر القلب، أول ما يتبادر إلى الذهن الحب، فالقلب ربط بهذه العاطفة الجميلة، حتى بات كأنه لا وظيفة له غيرها! جُعل القلب مقابلا للعقل، فإن دعا العقل إلى الصرامة، دعا القلب إلى اللين، وإن دعا العقل إلى العقوبة، دعا القلب إلى السماح، وإن دعا العقل إلى المنع، دعا القلب إلى المنح، جُعل عمل القلب محصورا في إنتاج العواطف والخيال والرحمة، وجُعل عمل العقل محصورا في نتاج المعرفة والوعي والإدراك! تواطؤ الناس على أن القلب للحب فقط، محا من أذهانهم احتمال أن يكون للقلب شأن غير ذلك. أهل اللغة يقولون إن القلب أخذ اسمه من صفة التقلب التي فطر عليها، فالقلب من طبيعته ألا يستقر على حال، وهذا يعني أن القلب لا ضمان له ما دام أنه عرضة للتغير والتبدل، وقد يورط صاحبه وينتقل به من حال إلى حال بلا استئذان، فالقلب قابل لأن يتغير من إقبال إلى انصراف، ومن محبة إلى كراهية، ومن إيمان إلى كفر، ومن تقوى إلى فسوق، ومن لين إلى غلظة، ومن رحمة إلى قسوة، ومن طيبة إلى خبث، والعكس أيضا صحيح. ولأن القلب لا ثقة فيه ولا اطمئنان إلى دوامه على حال واحدة، فإن المؤمن مأمور بترديد التضرع إلى الله أن يثبت قلبه على الإيمان (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك). لكن القلب رغم صفة التقلب هذه التي لا تبقيه على حال، يظل محتفظا بصفة أخرى ثابتة فيه لا تتبدل، هي صفة الصدق، فالقلب لا يكذب أبدا، على خلاف اللسان الذي يسهل عليه الكذب وطمر الحقيقة، لذلك اعتاد الناس ترديد قول: القلب لا يكذب، وجعلوا من القلب مرجعا يحيلون إليه الباحثين عن الحق: (استفت قلبك)، (اسأل قلبك)، (قلبي دليلي). كثيرون هم الذين يرجعون إلى قلوبهم يستفتونها، وقد يأخذون بما تقول وقد لا يأخذون، لكنهم في كلا الحالين يرجعون إليها لأنهم مطمئنون إلى أن قلوبهم لا تكذبهم، مثل ابن الفارض، الشاعر الصوفي الرقيق، الذي استفتى قلبه في حب من يهوى، فأفتاه بأنه هالك في حبه لا محالة، لكنه مع ذلك لا يبالي ولا يجد في نفسه ميلا لطاعة ما يقوله قلبه: قلبي يحدثني أنك متلفي،،، روحي فداك، عرفت أم لم تعرف ومما يؤكد صفة الصدق في القلب أن الله سبحانه جعله المنبئ عن حقيقة الإنسان، فخصه بالنظر إليه دون أي شيء آخر، كما ورد في الحديث: «إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم»، فالقلب لا يكذب في كشفه حقيقة ما ينطوي عليه الضمير. إلا أن من أعجب ما فطر الله عليه القلب، أنه يموت وهو ما زال ينبض، فقلب بلا إيمان بالله قلب ميت، وقلب بلا محبة قلب ميت، وقلب بلا رحمة قلب ميت، وقلب بلا ولاء للوطن قلب ميت، وقلب بلا تذوق للجمال والخير قلب ميت، فسبحان الله فاطر القلوب!!