اتشحت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي بحزن صادق شفيف منذ اللحظة الأولى لتسرب خبر وفاة الأمير سعود الفيصل رحمه الله وزادت كثافة المشاركة بعد إعلان النبأ رسميا، فما من وسيلة عربية أو أجنبية إلا وبثت الخبر وبعضها أفرد وقتا خاصا لاستعراض مسيرة أقدم وزير خارجية بين زملائه في كل دول العالم ومن أكثرهم حنكة وصبرا وعملا دؤوبا واطلاعا ودراية بما يجري في كواليس صناع السياسة. أربعون عاما هي مدة قياسية في أي وظيفة فكيف عندما تكون في وظيفة من أصعب الوظائف وأعقدها ذهنيا وجسديا، وقد شاء حظ الأمير سعود أن يكون الشخص الذي حاز ثقة أربعة ملوك رأوا فيه الشخص الأقدر والأجدر والأخبر لقيادة دفة السياسة الخارجية السعودية خلال أزمات عالمية وعربية وإقليمية لا تعد ولا تحصى، استطاع أن يجعل للمملكة خلالها صوتا ووزنا مؤثرا بتوظيف كثير من المعطيات المتاحة لها. ذلك الشاب المتخرج من جامعة برنستون ومن جامعة الملك فيصل الصارمة لم يقفز إلى الواجهة بسرعة، وتلك هي فلسفة الفيصل رحمه الله، فهو يجعل أبناءه يمرون بالمراحل الطبيعية التي يمر بها غيرهم من المبتدئين في الوظيفة العامة ليتدرجوا بشكل منطقي بعد اكتسابهم للخبرة وإثبات الجدارة. وقد بزغ نجم سعود الفيصل في وزارة البترول والثروة المعدنية ليصبح بعد فترة من أهم المسؤولين فيها، ثم تأتي اللحظة التأريخية الفارقة في حياته عندما تم اختياره وزيرا للخارجية في بداية عهد الملك خالد، وليستمر في تلك المهمة المتعبة إلى أن بلغ به التعب مبلغه فكرمه الملك سلمان ببقائه مشرفا على السياسة الخارجية وعضوا في مجلس الوزراء. مرات كثيرة رأيت فيها سعود الفيصل في السنوات الأخيرة، ومع أن التعب كان باديا على جسده ويزداد بشراسة إلا أن حضوره الذهني وذكاءه المتوقد وسرعة بديهته ولطفه وتواضعه ولماحيته كانت حاضرة في كل الأحوال. وكان يخرج بعد كل أزمة صحية أكثر شهية للعمل والعطاء والإنتاج لأنه لا يعترف بالراحة والدعة والسكون أو الاستسلام للتعب. لقد رحل عميد الدبلوماسية العربية والعالمية بعد أن اختزنت ذاكرته أحداثا لم تمر على شخص آخر غيره، كم نتمنى أن يكون الوقت قد سمح له بتدوين بعضها ليطلع عليها الشغوفون بسيرة ومسيرة مسؤول استثنائي فقده العالم بأجمعه.