تعددت آراء وانطباعات المثقفين حول الحنين للمراتع الأولى والمرابع الأبجدية لقاموس الحياة، ففي حين يجعل منها البعض عالما موازيا يسنده عندما يضيق ذرعا بواقعه، وصفه البعض بالتركة الثقيلة المعوقة للنهوض والتقدم وصنع حياة متصالحة مع مكانها وزمانها. ويرى الشاعر الأردني أمجد ناصر أن الحنين يعني له العودة إلى أرض الخطوة الأولى التي لم تعد موجودة إلا في الذاكرة، ويضيف شعرا (لعمان رائحة الجياد، والقميص الوحيد المعلق في خزانة الأرملة، لعمان رائحة الأجساد المرهقة، أفكر الآن: هل كان البنك العربي قريبا من ماء السيل قريبا من آخر ليل، أم كان بعيدا عن قلبي)، وأضاف تراودني فكرة العودة دائما ولكن عندما يرمي المرء جذوره في مكان ما يصبح صعبا اقتلاع هذه الجذور، ويؤكد أن الأردن حاضر في كتابته وذاكرته كما أنه على صلة بالبلد من خلال زياراته السنوية وعلاقته بأهله وأصدقاء. وأوضح الناقد والأكاديمي الدكتور معجب العدواني أن الحنين تركة ثقيلة تتحملها الجماعات، وتنوء بها أكتاف الأفراد، كما أنه عائق في سبل النهوض بالأوطان والذوات، مبديا تحفظه على حضوره المستديم في ثقافات تستهل بالبكاء على الأطلال في فنونها، وتؤمن بكون ماضيها بديلا عن مستقبلها، لذا عاشت تجارب هشة مكرورة، حليتها الإعجاب والغرور والنرجسية، ويرى أنه لا اجتياز لذلك إلا بإلإيمان بأن تطوير إنتاجنا وإيجاد أصناف وحقول جديدة، يستعاض بها عن ما هو سائد هو الطريق لإلقاء الأحجار في الماء الراكدة. فيما يذهب الشاعر والتربوي علي الحفظي إلى أن الحنين ارتباط نفسي وعمق عاطفي ومحاولة استعادة ذكريات الماضي التي خبا وهجها وبدأت معالمها تختفي لولا بقية من إحساس. ويصف الإعلامي ناصر الدعجاني الحنين للمراتع الأولى بعودة الشيخ إلى صباه وانعتاق الذاكرة من الزمن الحاضر والهروب إلى نشوة البدايات الأولى في مرحلة ولادة الأحلام الوردية وتطورها، وأضاف بأن الحنين نافذة نبقيها دائما مشرعة عندما تشتد بنا أزمات السنين لنغفو على عتبتها بين وجع الحاضر ونزق الصبا وعنفوانه، مؤكدا أن البعض يعمد إلى هذا المهرب الجميل الذي تحيك مخيلاتنا حوله غلالة من الشوق لصورة بهتت مع الأيام حتى زالت منها الزوايا الحادة وبقي الملمس الحاني لذكريات من جاؤوا ومن رحلوا، ويرى أن ذكريات الطفولة المترعة وعنفوان الشباب وهطول الحب الأول والفراق الأول والألم الأول تظل صوتا خافتا يهمس في الأعماق دوما ويردد ألا ليت الشباب يعود يوما. ويؤكد الكاتب والمخرج المسرحي فهد ردة الحارثي أن الحنين للمراتع والمرابع الأولى ذاكرة لا تغيب ذاكرة الزمان والمكان والحكايات والتفاصيل والحارات والسبل والطرق المزهرة وقصص قصيرة جدا لعشاق لم يلتقوا، وأضاف نتلمس خطوات مرت من هنا ومن هناك ثم نعود لنا، لافتا إلى أنه ما كانت مراتعه ومرابعه وطرقه الضيقة جنات وأنهارا بل ربما شكل البؤس حكايات مرة ومالحة وجافة وموحشة إلا أنه يعود كلما تذكر أنه حبس الصورة في ظل وحبس الظل في الذاكرة وحبس الذاكرة فيه ليسامر على جمرها وهو يشعل قهوتها ويغني لليل والزوايا والخانات وحكايات البسطاء.