أحبت مكتبها، فهو يقع تماما أسفل نافذة كبيرة، يخفف الهواء القادم عبرها من رائحة العطن التي تبعثها الأوراق القديمة في المكان، ويبدد الكآبة التي ينفثها اللون الرمادي، وهو يصبغ الجدران والطاولات من حولها. لم يكن المكان يشي بالإثارة المنتظرة، الألوان والرائحة، وحتى الصمت الغالب عليه، كل ذلك كان أقرب إلى الرتابة التي جاءت الفتاة هاربة منها. لكنها لم تشأ أن تستعجل في الحكم. ستمنح تجربتها فرصة وافية. قبل ذلك كانت قد جالت سريعا في المكان رفقة مساعدة المدير. البداية كانت من الطابق الأول. «في هذا القسم تجدين مكتبة يرتادها الباحثون وأغلبهم طلاب جامعيون. هنا قسم الترجمة، وإلى جواره مخزن الدائرة الرئيسي». بدت مساعدة المدير على عجلة من أمرها وهي تطلع الفتاة على مرافق المكان، كانت تمر سريعا على الأقسام دون منحها فرصة التعرف عليها جيدا، ومع هذا فقد تسللت إليها برودة المكان، ملامح أصحابه الجامدة حين يردون على تحيتها بلا مبالاة. جدرانه العالية والسكون الذي يصبغ الردهات كانا يمنحان المكان هيبة فاترة. بدت الدائرة كوحش نائم، أو يتثاءب على أقل تقدير. «هنا مكتب المدير. صحيح أنه في الطابق الثالث، لكن الرجل لا يكاد يستقر فيه لفرط ما يراقب عمل جميع الأقسام. هنا مكتبي. هناك مخزن آخر، لكنه مؤقت على خلاف ما رأيناه في الأسفل. تلك غرفة الساعي. تعالي لأريك الطابق الثاني حيث يقع مكتبك». طوال الممرات، كانت اللوحات تملأ الجدران؛ صور الرئيس، صور قديمة لمعارك الاستقلال، خرائط جغرافية للبلد، عبارات ثورية زال الحبر عن كثير منها، فبدا الكلام مبهما. ما إن استقرت خلف مكتبها، حتى تسابق الرجال الثلاثة على تقديم خدماتهم، تحت وقع نظرات المرأتين الحانقة. أحدهم، وقد عرفت أنه رئيس القسم، بادر بوضع خبرته الطويلة في الأرشفة تحت تصرفها، وهو يرمقها بعينين ترمشان كثيرا، والآخر قدم لها نسخته الوحيدة من كتيب يشرح بعض المصطلحات الصعبة التي قد تواجهها أثناء طباعة الوثائق، فيما بدا الثالث خائبا بعد أن سبقه رفيقاه إليها، فلم يجد غير أن يعرض عليها إيصالها إلى العمل كل يوم بسيارته الجديدة. وحده الساعي الطاعن في السن كان خارج هذا التكالب، يمر عليهم، يضع أكواب الشاي والقهوة، ويغادر بصمت كما جاء. شعرت أنه الوحيد الذي يستلطفها دون أن يقتحم حياتها. اكتفت بابتسامة مقتضبة، وهي تشكر زملاءها. كأي أنثى يشعرها الإطراء بالزهو، تطرب للنظرات الهائمة. لكنها تكره أن يأتي ذلك بغباء، باندلاق طفولي. تحبه ناضجا، ذكيا، يمر عبر الكلمات، دون أن يحتلها بفجاجة فاقعة. لهذا لم تشعر بكثير امتنان للطف زملائها، لتكالبهم عليها كغنيمة مشاع. هذا يدخل في حدود اعتيادها المؤذي. هنا يغدو الأمر منفرا، فيصبح ما يقدمه جمالها للآخرين، أكثر بكثير مما باستطاعتهم تقديمه لها. كثيرا ما خطر لها أن جمالها قد يكون سببا في سأمها الدائم، فهو يحيطها عادة بالحمقى، بمن يريدونها، دون أن يجذبها شيء فيهم. لكنها مع هذا تحبه، تحب جمالها. كان اليوم يبتدئ في التاسعة صباحا بأن تجلب مساعدة المدير حزم الأوراق المتآكلة لرئيس القسم، الذي يقوم بتوزيعها على موظفيه. لاحظت أن نصيبها أقل من الآخرين. ولم تكن وحدها من لاحظ ذلك، فقد رأته في أعين المرأتين إلى جوارها. لاحظت كذلك أن كل حزمة مربوطة بشريط ملون، إضافة إلى طابع من نفس اللون أعلى كل وثيقة. فكانت حزمتها هي والمرأتين محاطة باللون البني، بينما أحيطت حزمتا رجلين باللون الأصفر، وكان اللون الأحمر من نصيب الحزمة المخصصة لرئيس القسم، الذي كان يعود ليجمع كل الأوراق مع نهاية اليوم. علمت أن للألوان علاقة بأهمية المحتوى. وتأكدت أكثر حين قرأت أولى أوراقها البنية، فلم تجد شيئا مثيرا. كانت الورقة تحكي عن شحنة سلاح روسي استولى عليها الجيش قبل وصولها إلى وجهتها بعد معركة قصيرة مع العدو. شرعت في الكتابة، فبدا أن الجميع يفوقونها في سرعة الطباعة. «لا عليك، ستتطور سرعتك مع الوقت. كلنا مررنا بهذه المرحلة». أراحها تعليق رئيس القسم وهو يرمش بارتباك، دون أن تمنحه أكثر من ابتسامة فاترة. مع نهاية اليوم كانت قد أتمت طباعة أربعة مستندات لا تختلف كثيرا في تفاصيلها؛ بطولات الجيش في مقابل الهزائم المذلة بحق الأعداء. بدأ يتسلل إليها السأم، فما بدا لها عملا حيا ها هو يشبه حياتها، وقد نخرته الرتابة أكثر. لكنها مجددا لم تلتفت إلى هذا الخاطر معللة النفس أن كل شيء لا يزال في بدايته. حملت حقيبتها وهمت بالخروج، فوجدت زميلها يكرر عرضه بإيصالها لمنزلها. اعتذرت بضيق، وغادرت مسرعة مبنى الدائرة. الشريط الأول الأيام التالية لم تكن تحمل شيئا مختلفا. كانت تعامل بلطف بالغ من قبل المدير ورئيس قسمها، وسط غيرة زملائها الباقين. لكنها شعورها بالاعتياد كان أقوى. لم يتغير شيء غير تحسن بسيط في سرعة طباعتها وجد إشادة كبيرة من الرجلين. لكن ذلك أيضا لم يلامس ما كانت ترجوه. فما تفعله كل يوم أصبح معروفا؛ وثائق متشابهة، وتفاصيل مملة، تعود بعده إلى منزلها حيث تحاول الجدة غسل رتابة يومها بحكاياتها المتدفقة. منزلها صغير بطراز قديم لكنه أنيق. طابق واحد، سقفه المائل من القرميد الأحمر، وحوافه الأرضية مدعمة بخشب الصنوبر، وله حديقة صغيرة يحيطها سور منخفض، اعتناء الجدة اليومي بها جعلها لافتة للنظر. المنزل يقع في الجهة الشمالية من ترافولو، الحي الذي هام فيه الإيطاليون، وكان آخر ما غادروه، قبل أن يخصصه الإثيوبيون لكبار قادتهم العسكريين، ثم حين جاء الاستقلال وزعت الحكومة معظم مبانيه على قدامى المحاربين، وكان هذا المنزل من نصيب جدتها. لم تكن المخصصات التي توزعها الحكومة على قدامى المحاربين كافية، لكن الجدة كانت تتدبر ما يكفيها ويكفي حفيدتها من عملها على ماكينة الخياطة العتيقة من ماركة ستوكي الإيطالية، اشترتها بربع قيمتها من أبناء عجوز إيطالية قرروا العودة إلى بلادهم بمجرد وفاة والدتهم. كان للماكينة الحديدية السوداء هدير يرج الطاولة الخشبية الكبيرة التي ترتكز عليها، ما إن تضغط الجدة على دواستها، وتدير بكرتها بيدها في الوقت عينه. لكن هذا الصوت المزعج بات مألوفا لفرط ما يتكرر كل يوم. حتى أن الفتاة أصبح بإمكانها سماع الجدة بوضوح، وقد اعتادت أن تحكي وهي تمارس عملها المحبب. لا ينافس الستوكي، إلا المغزل العاجي ذو النهاية الحادة المعقوفة، وبكرات الصوف الملونة. تلجأ لهما الجدة حين تود تحريك يديها دون انتباه، لكن باستمتاع كبير. برشاقة تخيط أغطية وبلوفرات وشالات، توزعها على المرضى الذين تزورهم في العاصمة وخارجها. يبدو الأمر عشوائيا، وهي تمزج بين الألوان، لكن النتيجة النهائية تبدو دائما مبهرة. كثيرا ما حاولت الفتاة تعلم الغزل، جهدت للإمساك بعصاتي المغزل الرفيعتين دون جدوى. ما إن تمسك بإحداها، حتى تفلت الأخرى، وحين تتمكن منهما، تسقط البكرة، وتتدحرج بعيدا، ناثرة خيوط الصوف في كل مكان، وسط ضحكات الجدة. كان الأمر يشبه كثيرا الطريقة التي تسرد بها الجدة حكاياتها، ثمة براعة في الإمساك بجوانب القصة من كل اتجاه، بحيث لا تنفرط خيوط الحكاية حتى النهاية. في أحد المساءات، كانت شهية جدتها مفتوحة للحكي، كالعادة. لم تكن تكتفي بسرد الحكاية، بل تتمثلها بملامحها وحركات يدها. بينما كانت الفتاة نصف شاردة، تنتبه لجدتها حينا، قبل أن تغرق في البحث عن مخرج للرتابة التي أضافها العمل على حياتها الفاترة أصلا. رافقتها الحكايات منذ وعيها الأول. كانت الجدة تهدهدها بحكايات مغناة حتى تنام. لم تكن تعي ما تسمعه، لكنها اعتادته. اعتادت اللحن والكلمات المبهمة، حتى صار من غير الممكن أن تنام دونها. حين كبرت قليلا أصبحت تقلد جدتها، تمسك برأسها، تعبث بشعرها، وتحاكي لحنها بتأتأة متقطعة، فتتظاهر الجدة بالنعاس، وتغرق الطفلة في حبور بالغ. وتنام. حين دخلت المدرسة كان وعيها بحكايات جدتها قد تشكل قليلا. صارت معنية بالأشجار، والماء، وحجارة الطريق. تتحدث إليهم، وتسمعهم. ثم تنقل ما جرى لجدتها التي تسمعها باهتمام. وكانت تستغرب لسخرية المارة من حواراتها الطويلة. استغربت أكثر من تعليقات معلمتها التي تثير ضحكات زملائها، حين تضبطها متلبسة بالحديث مع كتابها وأقلامها، أو طاولتها الصغيرة. أخبرتها الشجرة الكبيرة في باحة المدرسة يوما أنها ترى حريقا هائلا في الصفوف العليا. نظرت إلى الأعلى، لكنها لم تر شيئا، فقد كانت قامتها أقصر من الشجرة بكثير. هرولت من فورها وأخبرت معلمتها التي هرعت لإخراج التلاميذ من فصولهم، قبل أن تعود إليها غاضبة وهي تصفها بالكاذبة. لم تكن تكذب، كانت تنقل فقط حديث الشجرة الكبيرة في باحة المدرسة. ولم تكن الشجرة بدورها تكذب، هي ترى أكثر من الآخرين، لا أحد يستطيع رؤية ما تراه الشجرة الكبيرة. عادت إلى بيتها حزينة، ومن وقتها توقفت عن الحديث إلى الأشجار وإلى حجارة الطريق خشية أن يراها أحد فيخبر معلمتها.