أمس استضافت باريس لقاء «المجموعة المصغرة» لدول التحالف ضد تنظيم داعش، وتكرر الحديث عن مناقشة السبل العسكرية والسياسية التي ستمكن التحالف من التغلب على هذا التنظيم. وهذه ليست المرة الأولى التي يلتقي فيها خبراء التحالف لمناقشة القضايا نفسها دون الحد من تمدد وتوسع أعمال التنظيم.. وكأن داعش تحول إلى «لغز» لم تتضح أبعاده بعد.. وقد قيل الكثير عن تشكل التنظيم، من الذي أوجده؟ ولماذا وجد في هذه المنطقة وفي هذا التوقيت؟. وهل هو أداة مؤقتة ضمن آليات إعادة رسم خرائط المنطقة أم هو «خلق» طبيعي جاء في سياق مشروع استراتيجي؟. وبصراحة لست من المغرمين بنظرية المؤامرة، إذا كان المقصود بها «اتحاد الإرادات ووحدة الأهداف للقضاء علينا»، لكن متابعة مسيرة هذا التنظيم والطفرات التي صاحبت بروزه تجعل المرء يتوقف للتأمل.. التنظيم نشأ من تناسل المجموعات القتالية التي تخلقت في رحم القضية الأفغانية بتلقيح الاستخبارات الدولية ثم توالت الأحداث فأنجبت مواليد جددا، فكان منهم «داعش» الذي فاق الجميع بسرعة التمدد وتطوير الآليات واستخدام التكنولوجيا.. وفي سياق محاولات فهم الأهداف التي يسعى لتحقيقها برز رأي يقول: إن التنظيم «صنيعة الغرب» حتى تظل المنطقة مصدرا لتغذية اقتصاديات صناعة السلاح بعد أن تعرضت للانكماش بسقوط الحرب الباردة بين الغرب الرأسمالي والشرق الشيوعي أوالاشتراكي. وهناك من يتجاوز هذه النظرة «الاقتصادية» إلى هدف إخضاع المنطقة وثقافتها، لأن ذلك أهم وأبقى من كونها مستهلكا للسلاح.. وهذا الرأي ينطلق من مفهوم الصراع الثقافي وأن الغرب يرى في ثقافة المنطقة (الإسلام) العدو القادر على الصمود أمام التحدي الخارجي، وإضعافه لا بد أن يأتي من داخله، ويذكر هذا البعض بالدراسات والنقاشات التي تلت انتصار الغرب الرأسمالي على الشرق الاشتراكي بسقوط الاتحاد السوفيتي وتعديل مسار الصين من تجربتها الثورية «الماوية»، وأن تلك الدراسات وحلقات المناقشة انتهت إلى تلوين خارطة عدو الغرب المحتمل بالأخضر (رمز العالم الإسلامي) بدلا من اللون الأحمر الدال على الشيوعية ومن يدور في فلكها. وهؤلاء يرون الإرهاب من نافذة صراع الثقافات ويرصدون نشوء داعش وعلاقتها بالولايات المتحدة ومن يقترب منها الآن (إيران) ويشيرون إلى تهاون واشنطن في التعامل مع الحركات الإرهابية في سوريا والعراق، قبل أن يتعاظم شأن داعش نتيجة السياسة الطائفية الحاقدة التي نفذها رئيس الوزراء السابق نوري المالكي ضد شريحة من مواطني بلده.. ومن أسف أن الأخطاء في هذا الجانب ما تزال ترتكب في حق فئة من الشعب العراقي حتى بات محروما من حقوقه.. ولأن معرفة «خلق داعش» ما تزال في دائرة «النظرية» فإن الحديث فيها يتسع لأكثر من وجهة نظر، ومن ذلك أن «داعش» يمكن أن يكون إحدى لعب «الضغط» التي تستخدمها الدول الكبرى في إطار معالجة ملفات المنطقة المتداخلة، ويؤيد هذا أن «داعش» بين مد وجزر، يتسع انتشاره حين يتوقف طيران التحالف عن ضربه، فإذا زاد خطره وبات يشكل خطرا على «ميزان القوى» وجهت إليه الضربات لتضعف ضغطها على الإطراف الأخرى.. وهذا يعني، عند من يقول بهذا الرأي، أن داعش لن ينتهي قبل أن ترتب الدول الكبرى أوضاعها في المنطقة وتحدد من يضمن مصالحها ويبقيها نافذة.