بعد سنوات من رفقتي للكتاب المترجم والأدب العالمي وهيامي بالأدب الإيراني والروسي قررت أن أعود للأصل بدأت أنقب عن الرواية السعودية وبالمصادفة وقعت على جزيرة الكنز ولكن بدون خمسة عشر رجلاً كان واحداً فقط هو طاهر الزهراني فأبحرت معه في (نحو الجنوب) حين تم ترحيلي تعسفياً للجنوب تسلقت الجبل وكنت مجبرة على التعامل مع قسوة الجد التي كانت سابقاً تسمى (تربية) ثم اختبأت مع أخي لنوقع بالضبع الغدار ومن ثم شهدت معه عراك الأرض والدم وأخيراً أطرقت عيني لتلك النافذة التي كانت مضاءة حين عودتي. والتي اكتفى طاهر بإخبارنا بأنها مضاءة وترك للقارئ تصور النهاية أو اللانهاية. تذكرت خط الجنوب وقصص والدي حين عاد يوماً إلى (الديرة) محملاً بالحب والهدايا لوالدته والأقارب هناك حين كانت تصل رسائل الوجد وقد أحرقت أطرافها (تعبيراً عن شدة الشوق) فلا يملك من تصله تلك الرسالة إلى أن يترك ما في يديه وييمم وجهه نحو الجنوب، كانت الأمهات المنفطرة قلوبهن يبعثن الرسائل لأبنائهن الذين فطنوا بأن رعي الغنم والتجول في سوق الثلاثاء لم يعد يجدي نفعا في الحياة الجديدة فارتحلوا للمدينة تاركين خلفهم قلوبهم وذكرياتهم ومحظوظ من عاد منهم قبل أن يقتسم أقاربه ما ترك خلفه من بلاد..! في نحو الجنوب وأطفال السبيل وجانجي يجعلنا الزهراني نعيد النظر قليلاً في علاقاتنا بالآخرين، طاهر في اعتقادي شغوف بالعلاقات الإنسانية وتحديدا بالصداقة فكانت جانجي تحوي كما هائلا من المشاعر الصادقة عن ذلك الصديق الذي ضحى بنفسه وبعث الرسالة تلو الأخرى لصديقه المعتقل في جوانتنامو بعد أن تعرض مع بقية العرب المجاهدين في قلعة جانجي لصنوف التعذيب والإذلال وانتهى الأمر بالأحياء منهم في معسكر أشعة إكس، ثم صداقة الطهر بين قمر وطلال في أطفال السبيل حين ارتحلت قمر بسبب حرب الخليج التي لم تبقِ شيئاً على حاله، تجاوز كثيراً ضررها آثار الشريط اللاصق على النوافذ، عبثت تلك الحرب حتى بالأفكار وعصفت بالعقول فلم يعد الناس هم الناس قبل وبعد الحرب، لا تجلب الحرب وقتل الإنسان سوى الدمار والخراب ليس هناك حرب تعطي أملا البتة لا رحم للموت ليلد الأمل بل يخرج الأمل من رحم الحياة فقط، ارتحلت قمر وتركت طلال وحكايات والدته ذلك الأفيون الذي تعطيه كل مرة حتى يستوعب عقله الصغير الصدمة إثر الصدمة في حياة كما قال عنها الفيلسوف شوبنهاور «الوجود كله شرور وأحزان ومشقات وآلام» بغض النظر عن اتفاقي أو اختلافي معه. عن تلك الصداقات القديمة التي تدين لها بالحب يحتفظ والدي بصور قديمة لأصدقاء يتشابهون كثيرا عن كينيدي وأبونواس الذين أسماهم والدي لأسباب مختلفة وأتساءل كثيراً بل أعتقد بأن أصدقاءك القدماء يشبهون ملابسك القديمة تحبها لكن لم يعد بإمكانك ارتداؤها! أعتقد لو عاد خالد لن يكون خالد الذي عرفه صديقه قبل جانجي، أعتقد لو عاد كينيدي الآن لن يتعرف عليه والدي ولسعى لتغيير هذا اللقب الذي أعطاه يوماً ما لشدة الشبه بينه وبين الرئيس الأمريكي السابق جون كينيدي، كل شيء يتغير نحن نتغير أصدقاؤنا يتغيرون تتغير أفكارنا تتغير توجهاتنا، كل منا يبحر في اتجاه مختلف والبعض رسى أخيرا على بر ما، والبعض منا لا يزال يبحر، لو التقينا أصدقاءنا القدماء سنلتقي الحب والذكريات الجميلة لكن سيكون من الصعب التعاطي معهم مجدداً في فكرة ما لأن أصدقاءنا القدماء يشبهون فنجان القهوة الذي ترك ساعات على مكتبك، تحبه لكن لا يمكنك ارتشافه، إنه لم يعد فنجانك حين أعددته! في البدء كانت الأنثى قالتها سعاد الصباح، والأنثى القاسم المشترك في روايات الزهراني الأنثى هي السبب في ترحيل زهران إلى الباحة وهي الأمل الذي تمسك به للعودة إلى جدة، الأنثى حين رحلت لم تبق في ناجي ولم تذر فأصبح حبيس (صندقة الحمام) يعاقر الكأس وانسلخ عن الواقع، والأنثى حين حضرت كان طلال بكامل جماله وحيويته، الأنثى هي من أعادت ذكرى صديق رحل والأنثى هي من ساعدت في إيجاده ثم كانت الأنثى هي من دلت على مكانه، كتب طاهر في جانجي (إن للمرأة قلبا مليئا بالأسرار) وبالطبع وجودها هو ما يجعل الرجل لا يسقط من ذاكرة الأيام. وأجد نفسي مضطرة لأذكركم بشوبنهاور مرة أخرى حين قال «حياة الوحدة مصير كل الأرواح العظيمة» أبطال روايات الزهراني هم من العظماء الذين لم يبق لهم من صديق سوى الوحدة تستيقظ معهم صباحاً وترتشف قهوتها على ذات الكرسي الهزاز الذي اختاروه مكاناً بديلاً عن مسامرة صديق أو منادمة حبيب، العظماء وحدهم من تعجز الحياة أن تنجب لهم من يشبههم.