عندما انتهيت من قراءة رواية (نحو الجنوب) لطاهر الزهراني، أحسست أني أنا زهران بطل الرواية، زهران الذي دفن جده في القرية، ودفن معه عالمًا حميمًا يذوي وعاد إلى جدة محزونًا يحدق في نافذة كانت يومًا تشع بالضوء والحب والوعد وها هي اليوم منطفئة إلا من الذكرى. نحو الجنوب تروي الهجرة المعاكسة باتجاه الجذور؛ ففي حين يكتب الكل عن الهجرة من الجنوب إلى الشمال من القرى إلى المدن، خاتلنا طاهر ويكتب عن العودة من الشمال إلى الجنوب من جدة إلى القرية بحثًا عن الهوية التي فضل والده أن يزرعها فيه بإعادته للقرية وليظل مرتبطًا ب(البلاد) والقبيلة والمكان.. لكنه يفاجأ أن كل شيء هناك أيضًا يتغير ليعود زهران كما ذهب: «تلك الأعوام التي قضيتها في الجنوب لم أرجع منها بشيء إلا بخفاف يابسة ومتشققة وأظافر منزوعة وندوب في جميع الجسد، لكل ندبة قصة». وكأنه يريد أن يقول: إننا نحن أبناء الجنوب الذين نذهب إلى الشمال لا نعود بشيء (إن عدنا) وكأنه قدرنا أنىّ أتجهنا. جمال الرواية في لغتها الحميمة، عفويتها الآسرة، صدقها المفرط وقربها من الروح، بحيث أحسست أن طاهر يكتب عني وعنه وعن كل أبناء القرى وعن القرى المنذورة للفقد والتلاشي: “سوف تتغير المعالم وتتفشى الأمراض البشرية سوف تهدم بيوت الحجر ستدك البلاد وتسوى بألأرض وستشيد محلات ومراكز تجارية سيرمون الخبزة السمراء ويأتون (بالتوست) الأبيض و(الكروسان) الفرنسي وسيعافون اللحم ويأتون بمزارع الدجاج». طاهر الزهراني من مواليد جدة أي أنه من أبناء جدة، ولهذا فهو يعاكس في مسار رحلته جنوبا أولئك القادمين مثلي من الجنوب، لكنه لا ينتصر لمكان دون آخر..فالفقد يطارده في جنوبجدة وفي الجنوب أيضًا حيث عاد..جنوبجدة يتغير ويتغير عالم حميم يرويه لنا طاهر كعالم موازٍ، عالم الحارة وقيم الحارة وشخوص الحارة (حموده) وفيصل هوساوي وإبراهيم الصبياني والسامطي والتكروني..كأنه بهذه الأسماء يقول لنا إن هذا الأطياف المتنوعة من الناس صنعت من نسيج الحارة الجميل عالمًا بديلًا عن القبلية، والذي ينتقده طاهر في روايته وينتقد معه أشياء كثيرة في القرية أو القبيلة. «نحن دائمًا في الجنوب رغم ما نعيشه من انطلاق في حياتنا؛ إلا أننا نكتشف بعد نضج غير كافٍ أننا نراوح في قيود الجاهلية وظلام التقاليد العمياء التي لا زالت حية في جسد القبيلة “متى أكتشفت ذلك؟ اكتشفته بعد أن كفرت ببعض قوانينها ولم أدفع بعض مكوسها”. أعتقد أن الرواية بحاجة إلى قراءة نقدية أتمنى أن تحظى بها، فهي رغم بساطتها تحمل دلالات كثيرة دلالة التحولات في حياتنا ومجتمعنا وقيمنا دون أن ندرك تحولات القرية والحارة وتحولات الإنسان. هل أقول إن الرواية أعجبتني؟ نعم وإن كنت أعتقد أن طاهر (حشر) فيها بعض الحكايات دون حاجة فنية..كحكاية (الحسد) وحكاية (أم نحيين). هكذا أرى الرواية الصادرة عن دار طوى تقع في مائة وإحدى عشر صفحة؛ لكنها كانت كافية لتراوح بنا بين عالمين متجاورين ومتناقضين أيضًا، عالم الأمس واليوم، عالم المدينة والقرية، عالم الحلم والواقع، كانت كافية لتأخذنا نحو الجنوب.