في ساعات الصباح الأولى من كل يوم يعثر على فكرة جديدة وكتابة مختلفة، يكتب بنفس سردي له سماته المدهشة، انجز من خلاله روايته الاولى التي تحولت في ما بعد إلى عمل سينمائي واختار لها اسم (نحو الجنوب).. انه الروائي طاهر الزهراني الذي يقول إنه أمضى أكثر من أربعة أشهر في كتابة العمل، لكن التنقيح والمراجعة استغرقا ضعف ذلك وعن ظروف وولادة ذلك العمل وكيف تشكلت ملامحه الأولى تحدث ل«عكاظ» الروائي الزهراني فقال: «المدخل دائما لأي عمل أكتبه يمثل لي هما بطول سور برلين وحاجزا لكلماتي كجدار عازل يجعل الأفكار من خلفه متصارعة كدبابير مزعجة، الأفكار كثيرا ما نعتقد أنها بعيدة عنا ولكنها في الحقيقة تسكننا وفي نفس الوقت نلهث دوما لكي نصطادها في دواخلنا» هذه السطور الأولى كانت مدخل رواية نحو الجنوب، كانت هناك أكثر من فكرة، أكثر من مشروع للكتابة، أشياء واضحة وأخرى غير واضحة، لدي شبه تصور لكن عليه غبش، ثم علمت أن الشروع في الكتابة مباشرة سيكون هو الضوء الذي به تتضح الأمور، وبمجرد الشروع في الكتابة لاحظت أن الأشياء التي أردت الكتابة عنها لم تكن سوى دلالات، وأشياء ملهمة فقط، كنت أشير لبعضها وأتجاهل الآخر، لأتوصل بعد ذلك إلى كتابة عمل لا يشبه التصورات الأولى وإنما يقترب منها قصة ولادة النص ويضيف: كنت أنام مبكرا لأستيقظ مبكرا جدا حتى لا تفوتني ساعات الصفاء صباحا، إذ يكون الإنجاز فيها مضاعفا ومرضيا جدا، وهكذا يوميا ولمدة أربعة أشهر تقريبا. كنت اقرأ بعض الفصول أنا والصديق ماجد الجارد، فكان ينبهني إلى أن بعض الفصول كانت متأثرة بأجواء رواية جانجي، فقمت بحذفها مباشرة، لأني أريد أن أكتب شيئا لا علاقة له بأي عمل آخر حتى وإن كان لي، لكني وجدت هذا من المحال، لأني وجدت أني متأثر بكل من قرأت لهم. أثناء كتابتي للرواية قرأت رواية (جاهلية) لليلى الجهني، هذه الرواية هزتني حقيقة، ربما تقاطعت معها في كثير من أحداثها، سواء في الحياة أو على مستوى الكتابة، وكانت دافعا لي لمواصلة الكتابة بحماسة، إلى الآن لا أدري ما سبب هذا التأثر. بعد أن انتهيت من كتابة الرواية، اعطيت المسودة الصديق خالد المرضي، فاقترح علي إدراج شخصية كشخصية الشنفرى، لأن هناك تقاطعات بين الشنفرى والبطل، فكان الفصل الذي تحدثت فيه عن الشنفرى. صحيح أن كتابة العمل استغرقت مني أربعة أشهر، لكن مراجعة الرواية والتنقيح أخذا مني ضعف ذلك، حتى خرجت الرواية بالشكل المرضي. من رواية (نحو الجنوب) هناك على (كوبري الشميسي) لافتة تشير إلى أن طريق (غير المسلمين) إلى اليمين، ذاك الطريق كان طريقنا نحن أيضا! الوقوف في (قهوة الجبل) كالإحرام من الميقات تماما، لا بد للذاهب إلى الجنوب أن يمر على ذاك المكان، يملأ السيارة بالوقود، ويتبضع من محلاته الشعبية، وإذا كان صاحب مزاج فإنه لا يتردد أبدا عن المكوث ساعة بالقهوة لشرب الشاي والشيشة! طريق الساحل المؤدي إلى الجنوب لا يشي أبدا بأن هناك فرقا بين الفريقين، ليذهب السائرون فيه إلى الجحيم! طريق الساحل ثعبان طويل في كل شبر منه ناب سام! طريق الساحل خط واحد يلتهم الناس بشبق! طريق الساحل نعش أسود وعواصفه نائحة ثكلى تزعجنا دوما، وجيب أبي (السوزوكي) يشق الطريق إلى واد في تهامة أغبر! في هذا الطريق لابد أن تستفرغ (مرة أو مرتين) والسائرون فيه (لا يتوبون ولاهم يذكرون)! دماء دافئة على الأسفلت، مخ متناثر، فروة شعر مدعوسة، امرأة ميتة شبه عارية ملطخة بالدماء، سيارة مهشمه تماما ويد متدلية من نافذة السيارة، وأخرى مثلها غير أن بها وافدا قد تمزق واختلط بالحديد وما زال مسجل شاحنته الصغيرة يصدح بأغنية جميلة غير مفهومة المعنى! طريق الساحل لا يشرب إلا الدماء، ولا يقتات إلا على الأشلاء الممزقة! في الطريق، انفجر أحد إطارات السيارة فنزلت حافيا وإذ بي واقف في بقعة كبيرة من الدماء! غيرنا الإطار ثم أكملنا المسيرة الدامية! بيوت الصفيح منتشرة عبر الطريق توقفنا عند مطعم متهالك، طلب أبي طعاما لنا، بيت الصفيح أرضيته رمل أصفر وعليه (حنبل) ممزق وقوارير (كولا) فارغة، الخنافس السوداء تتجمع بطرق عشوائية! بعد الغداء طلب أبي شاي (تلقيمه) و(شيشة)، وعندما تجشأ رأس أبي أكملنا المسير. الطريق شمس حارقة ودماء سوادء يابسة وجمال سائبة وحمير تدور يوما كاملا لتخرج لترين من زيت السمسم، سيارات من طراز قديم على قارعة الطريق، رعاة جففتهم شمس الجنوب. إليك يا طاهر لم أشعر معها بملل، والشقاوة في التعبير مأخوذة من الحارات والأزقة، أما التلقائية فأكاد أقول إن هناك منافسة قوية بين زهران -بطل الرواية- وبين طاهر الزهراني المؤلف. تقترب من السيرة الذاتية إلى حد كبير، لكنها في شكل عام قصة العائد إلى منابع الأسلاف والحجارة التي نبتت عليها الطفولة والذكريات البكر. عواض شاهر عندما انتهيت من قراءة رواية (نحو الجنوب) لطاهر الزهراني، أحسست أني أنا زهران بطل الرواية، زهران الذي دفن جده في القرية، ودفن معه عالما حميما يذوي وعاد إلى جدة محزونا يحدق في نافذة كانت يوما تشع بالضوء والحب والوعد. عمرو العامري