يكتب الشاعر محمد خضر قصيدة شفافة منسوبة إلى مياه الحياة وتفاصيلها المدهشة، بصفاء رموزها أحيانا، وغموض تفاصيلها أحيانا أخرى. لا يتوانى عن الجمع بينهما، مانحا صوته الشعري إيقاعا سرديا وتلوينات دلالية رمزية. يكتب قصيدة تدخل إلى القلوب مباشرة تماما كالفراشة التي يفتتح بها ديوانه: "منذ أول تفاحة" الصادر عن النادي الأدبي للمنطقة الشرقية ودار أثر. يتحدث، منذ البدء، عن الرغبة في الخفة والحرية والجمال التي يرمز إليها بالفراشة التي تبدلت عليها الطبيعة وأصبحت تعيش بين الأسمنت بلا هوية ضائعة ومشردة ومتأهبة للانتحار. الفراشة التي دخلت من نافذة المطبخ.. كانت تحوم لأيام في كل الغرف ترتطم بالسقف كلما حلمت بالهواء وتحك ألمها على ضوء خافت للأباجورة الأصلية الفراشة التي نامت كثيرا على صوت هسيس الأشجار في التلفزيون وعلى حواف الأحلام في الأغنيات الشعبية لم تعد تذكر لون السماء تماما ولا تفرق بين الجدار والفضاء لذا تتعرف الصباحات من حنين في القلب وتروض أمنياتها بالقرب من شجيرات البلاستيك في ركن الصالون... الفراشة التي انتحرت مؤخرا بسعادة مفرطة في زجاجة خل التفاح. وماذا تبقى بعد هذه الخسارة. ربما الحنين الجارف المترسب في قصائد محمد خضر كهارمونيا ينتظم بها الإيقاع الداخلي للقصيدة. الحنين إلى الماضي والعابر والمنفلت تيمة أثيرة لدى الشاعر. تمتزج بتفاصيل الحياة اليومية. وهنا تحضر العلاقات الأسرية والاجتماعية خاصة العلاقة بالأم والأب والإخوة تارة و أفراد آخرين من معين المشاهدة والوعي والتمثلات. لا يتحدث الشاعر عن علاقاته هذه بشكل تقريري ومباشر، وإنما باستخدام ذرائع رمزية، كتلك الفراشة التي جالت بنا أمكنة الاغتراب والاستلاب، تحضر الصورة الفوتوغرافية العائلية ليشيد الشاعر على علاماتها البصرية نسيجا شعريا يميل ميلا عذبا إلى السرد بانسيابية تجري في الذهن بصور متعاقبة ومستجدة. رغم ارتباط الصورة العائلية بحياتنا اليومية المعتادة إلا أن الشاعر عرف كيف يحول صورة عادية إلى أيقونة ذاتية وجمالية وتاريخية. تلك التي التقطها المصور في أواخر السبعينات كانت أمي تسيل حنانا على الأبناء بينما البنات بضفائرهن الثنائية ينظرن إلى بعضهن بعيدا عن عدسة الكاميرا الصورة التي تركت لأعوام عديدة بجانب النافذة ثم انتقلت من غرفة إلى غرفة حتى اختفت تماما في سحارة العائلة تلك التي زينها الإخوة بإطار خشبي مزخرف عندما كبروا قليلا وراحوا يلمعون زجاجها كلما هب الحنين الصورة التي جمعتنا معا ونحن نغلق ياقاتنا ونبتسم غير آبهين ونحن ننتظر بشغف صارم أن نخرج من الكاميرا كما نرجو على الأقل.. هذه القصيدة الأيقونة حولت الصورة إلى سجل توثيقي لسيرة العائلة وأرشيفها الوجداني. الصورة التي تحولت آلة مرآة عائلية يرى فيها كل فرد بهجته وحزنه. نفسه ونقيضها. حاله ومآله. الصورة التي امتزجت بأحداث الأعوام الخوالي خلقت الخلاصة ورسمت حدودا لمزرعة البيت وضوءا في الملامح والأعين.. تنمو هذه التفاصيل بين تربة الطفولة والأمكنة الحميمة والشعر طازجة بالأمل وحب الحياة والإبداع. لا يعكر صفاءها وانسيابها غير وعي شقي. إن أمورا كثيرة حدثت ما كان يجب أن تحدث بهذا الشكل المختلف. ثم أحاسيس صاحبتها كانت مفعمة بالغموض والالتباس ما كان عليها أن تتفتق رمادية. يكتب محمد خضر شعرا عن حياة منفلتة من بين فروج الزمن وجامحة من قيود الأسئلة المؤجلة. لماذا نعلق الأسئلة في خزانة الصمت؟ لماذا لا نجرب أن نرتديها حتى لو كان قميص الإجابة ضيقا تعالي نجرب أن نشرب من نفس الفنجان! ونشتم بعضنا بحيادية.. ورغم الصوت المنفرد الممعن في تحويل الذات إلى صوت يصدح بصيغة الجمع. فإن الشاعر ينجح في جعل قصيدته صوت جيل جديد ومتجدد ذي حساسية ملفتة تختبر الحواس وهي تشارك في طقوس الحياة المعاصرة السريعة الانبعاث والقريبة من العطب في آن واحد. جيل يكتب الجسد والرغبة للسمو بالكلمات والانعتاق من اللغة التقليدية باستعاراتها ودلالاتها، مجترحا لغة تحتضن استعارات حياة جديدة وشعرية متمردة. قصيدة محمد خضر لا تنزاح عن مضمار قصيدة النثر التي تسبر الذات حتى النخاع والحواس حتى الاحتراق، ثم تتجلى في ألقها الإبداعي وقلقها الوجودي قصيدة عن فراشة أو تفاحة. [email protected]