«لماذا نعلق الأسئلة في خزانة الصمت لماذا لا نجرب أن نرتديها حتى لو كان قميص الإجابة ضيقاً؟ تعالي نجرب أن نشرب من نفس الفنجان! ونشتم بعضنا بحيادية..» هكذا تأتي قصائد الشاعر محمد خضر في ديوانه الجيد «منذ أول تفاحة» بسيطة نكاد نظن أننا كلنا نستطيع كتابتها لكننا ما إن نقترب منها حتى تكون هي السهل العصي. محمد في شعره هنا وفي دواوينه السابقة مهموم بالإنسان والإنسان فقط.. الإنسان البسيط الذي تكاد تسلبه الحياة كل شيء حتى آدميته.. ويحاول جنود الظلام استلاب الباقي من الحياة.. الحياة التي توهب مرة واحدة ثم لا تستعاد وهو يصرخ: «أنتم يا حلفاء الغيب والأساطير.. يا من تقضون العمر في غيبوبة الحس والحفظ يا من تنتظرون مواعيد من آلاف الأعوام على مقاعد التأريخ يا من جفت حياتهم على قراءة الطالع يا من أصبحتم قطيعاً من العدم في قبضة السواد التفتوا ولو لبرهة إلى الحيااااااة». واستخدام الشاعر مفردة «أنتم» كأنه يشير بأصبعه إليهم هم .. هؤلاء حلفاء الغيب والأساطير الذين ضيعوا الحياة.. ويكتبها محمد بحرقة (الحياااااة) كأنه يتنفس. محمد خضر كغيره من أبناء القرى الذين سرقتهم المدن أيضاً.. مسكون بهاجس الغربة والفراق وفقدان الأشياء.. وقصيدته التي بعنوان «صورة العائلة» يكاد يخرج منها الحنين ويمسك بأيدينا ويتجول بنا في ردهات البيت وصحبة العائلة مفتشاً عن المصائر التي طوحت بالكل ولم تبق سوى الذكرى وحزن صامت نبيل.. حزن تروية صورة العائلة التي خلدتها الكاميرا ذات يوم ثم تفرق الشمل. «مثل الأحلام سكبنا الأسئلة منسابة على جودة الصورة سكبنا الأمنيات والصلوات على وفرة الحزن أخذنا الملامح إلى ركنها المضيء لنشرب قهوتها على شرفة الذكريات» يتكرر الغياب والحنين كثيراً في قصائد محمد.. غياب يتصاعد كالبخور من مجامر الذكريات.. الغياب الذي أخذنا بعيداً وضيعنا من دون حصاد.. وقصيدة (بعدما) تكتب هذا الفقد بمرارة تكاد تسيل على شفاهنا مرارة العودة من دون مكتسبات: «عادوا لم تكن قلوبهم رثة تماماً لكنَّا لم نتعرف إليهم منذ أول وهلة فحصنا الحنين والخاطر فيهم دعكنا أريافاً نبتت في أعينهم فأتضحوا مثل برق» ومحمد خضر مسكون أيضاً بقلق الوجود. الأسئلة الكبرى التي ما عادت تقنعنا عنها الإجابات البسيطة.. قلق الموت والميلاد وتلك الحفرة الكبيرة بينهما والتي تسمى العمر: «من صرخة الولادة تلك التي سمعتها أول مرة عندما بلغت الثانية عشرة في مسلسل «المهم الحب» إلى هذا اليوم وأنا في حفرة تكبر.. تكبر يسمونها العمر» وتتوالى قصائد الديوان تطرح أسئلة كبرى بلغة مقنعة، لغة لا تتنكب مفردات الشعراء الغامضة ولا الكلمات الكبيرة.. لكنها لغة الشعر لغة القصيدة الحديثة المتحررة من أدائية اللغة والموغلة في الجمال الحزين: «سيكلفني النسيان قصائد جديدة عن الحزن أسئلة تحك الوديعة في الصدر واكتراثاً مضيئاً لكل خطوة قادمة سيكون للوقت بيدر هجين من لغة الغياب والحضور سيمر الحصاد ويلمحون سنوات من الوله في أغصان مائلة من فرط السؤال» ولم يسقط الشاعر لغة القلب.. كل ما كتب بين دفتي الديوان أحرف كتبت لأن وجعاً حركها.. رغم ضيق المدينة وشح المطر الواعد للروح: «سأعقد صفقة سرية مع الأحلام أن تدخل من النافذة .... مع الحياة المتشابهة أن تميزني بخدش فارق.» «منذ أول تفاحة» الصادر عن نادي المنطقة الشرقية الأدبي، دار (أثر) في 72 صفحة، هو ديوان محمد الأخير في خطه المتصاعد بالقصيدة الحديثة.. القصيدة التي لا يكتبها غير محمد خضر ولا يتشابه مع أحد. «سوف تتشابه الأيام إلى درجة أننا سنقول أيتها الأيام التوائم الكثيرة كيف جئت من بطن سنة واحدة؟» * كاتب سعودي.