بغياب الشاعر السويدي توماس ترانسترومر يفقد الشعر في العالم أحد أبرز المشتغلين بهذا الفن الريادي والمنقبين عن معناه خارج بلادة التصاميم وصنمية الأشكال ورطانة الإنشاء البلاغي. ذلك أن تجربة الشاعر المنتمي إلى أقصى شمال العالم وأصقاعه الباردة، وإن لم تجنح باتجاه اللغة العاطفية المشبوبة، تقيم في الخلجات العميقة للنفس الإنسانية، حيث تتصفى اللغة من أحمال الانفعالات السطحية والعواطف الزائدة، وتنقب عن «القطب» المخفية التي تربط الشعر بالحياة المعيشة، والحياة بأنفاس صاحبها. وفي مقدمته العميقة لأعمال ترانسترومر التي نقلها إلى العربية قاسم حمادي يشير أدونيس إلى أن شعر صاحب «الساحة الوحشية» هو شعر يتم على الحد الذي يفصل ويجمع في آن واحد «حيث الأشياء التي لا يمكن التعبير عنها من جهة، ولا يمكن الصمت عنها من جهة أخرى، أي بين القول المستحيل والصمت المستحيل». والحقيقة أن توماس ترانسترومر، الذي حاز على جائزة نوبل قبل سنوات قليلة منتزعا إياها من صديقه أدونيس، يمتلك قدرة فائقة على محو الحدود بين ما هو شعري في العالم وما هو غير شعري، ملتقطا بحذق الذبذبات التي تصله من جهة الخارج ليحولها إلى موجات كهربائية تستقر داخل نفسه قبل أن تتلقفها الكلمات. وأحيانا نتساءل فيما إذا كان للأشياء التي يتناولها الشاعر وجودها الخارجي المستقل أم هي نابعة من خياله المحض، كما لو أنه يلعب لعبة المرايا المتعاكسة التي تتركنا في حيرة دائمة من إمكانية التمييز بين الأصول والظلال. على أن ترانسترومر لا ينادي بعبث الوجود وعدمية كائناته، بل إن لكل حدث عنده أصداء وترجيعات، ولكل لحظة عابرة ما يصلها بالأبدية وبغابة الزمان الكلي. ففي قصيدة له بعنوان «الحجارة» لا يقف الشاعر عند التمظهر المشهدي الذي أخذ به امرؤ القيس لرسم صورة حصانه، بل تصبح الحجارة التي نرميها من الأعلى معادلا رمزيا لمسيرة الحياة نفسها وهي تهبط من ذروة الولادة إلى قعر الموت «الحجارة التي رميناها أسمعها تسقط/ واضحة كالبلور عبر السنين/ أفعال اللحظة المرتبكة تطير في الوادي/ صارخة من قمة شجرة إلى أخرى/ نصمت في هواء أرق من هواء الحاضر/ هنالك تتساقط أعمالنا كلها متبلرة في قعر لا حدود له إلا نحن». الطبيعة من جهتها حاضرة بقوة في شعر ترانسترومتر، حيث نلمح التضاريس المليئة بالتعرجات لسواحل بحر الشمال وما يتخللها من أصداف وطحالب وحيوانات وأشجار وأحجار. لكن الشاعر لا يكتفي بتوصيف مشاهد الطبيعة التي قضى في كنفها طفولته وصباه، بل إنه يبحث عن الحيوات التي تتنفس تحتها وبين طياتها، كما لو أن اللغة هي مثقاب الزمن الذي يخترق التربة للعثور على الطفولة الأبدية لهيكل الأماكن العظمي. يعرف ترانسترومر أخيرا كيف يستنفر الحواس كلها لإيقاظ المعنى من غفلة الإقامة في ردهة المنسيات، مازجا ببراعة بين المرئي واللامرئي، بين الوقائع والتوريات، كما بين الإشارات الظاهرة للأشياء أو بين خفائها الملغز، حيث «تحاول رسالة كبيرة أن تحشر نفسها دون جدوى». أما الموت فهو عند ترانسترومر ليس فكرة ميتافيزيقية نائية ومحيدة عن الواقع المعيش، بل هو مقيم بين ظهرانينا في كل لحظة، كما لو أنه قفا كل عمل نقوم به أو عاطفة تعصف بنا أو لذة نقطفها عن شجرة الزمن. وهو يبعث لنا بإشاراته المتكررة دون أن ننتبه في الكثير من الأحيان. ولعل قصيدة ترانسترومر الموجزة «بطاقات سوداء» هي من أجمل وأكثف ما كتب عن علاقة الإنسان بالموت، إذ يقول «يحدث في منتصف العمر أن يأتي الموت/ ليأخذ مقاسات الإنسان/ تنسى هذه الزيارة وتستمر الحياة/ لكن بصمت تخاط البزة».