خيبت الأكاديمية السويدية آمال الكثيرين من المثقفين العرب الذين كانوا ينتظرون منها توجيه تحية الى «الربيع العربي» عبر اختيارها الشاعر أدونيس فائزاً بجائزة نوبل للآداب، وكان اسمه مطروحاً بقوة هذه السنة. إلا أن الأكاديمية اختارت الشاعر السويدي توماس ترانسترومر لتكافئه اخيراً بهذه الجائزة التي طال انتظاره لها وكان السبب في تأخرها عنه الهوية السويدية التي آثرت الأكاديمية طوال أربعين عاما إبعادها عن لوائح الفوز. أما المفارقة فهي ان هذا الشاعر الذي زاحم أدونيس على الجائزة وخطفها منه هو أحد أصدقائه، وكان أدونيس أشرف بنفسه على ترجمة أعماله الشعرية الكاملة الى العربية التي أنجزها قاسم حمادي عن السويدية مباشرة، وعاود قراءتها وأعمل قلمه فيها وصدرت في دمشق عن دار «بدايات» العام 2005. والصداقة التي جمعت بين الشاعرين تجلّت في الأمسيات التي أقاماها معاً وفي المقالات التي خص أدونيس بها هذا الشاعر الكبير الذي يسمى «أمير شعراء السويد» والذي يُعدّ واحداً من رواد القصيدة الحديثة في العالم اليوم، وكان له أثر على الكثير من الشعراء الجدد في اللغات العالمية التي ترجم شعره إليها وهي تقارب الستين، وبينها العربية التي بات له فيها كتابان. وقد سبق أن ترجم الشاعر العراقي المقيم في السويد علي ناصر كنانة مختارات من قصائد ترانسترومر عن السويدية وصدرت بعنوان «ليلاً على سفر» العام 2003 عن «المؤسسة العربية» في بيروت ومثلت مدخلاً الى قراءة هذا الشاعر عربياً. وكان ترانسترومر زار دمشقوبيروت غداة صدور أعماله الكاملة والتقى الجمهور جالساً على كرسيّه المتحرك، فهو أصيب بجلطة في الدماغ العام 1990 أفقدته القدرة على المشي والكلام. لكن زوجته مونيكا أصبحت بمثابة الناطقة باسمه، فما ان يستمع الى السؤال حتى ينظر إليها فتستنبط الجواب من عينيه وتنطق به. أما الكلمتان الوحيدتان اللتان يمكنه التفوه بهما فهما: نعم ولا. شاعر كبير، عالمه متعدد الوجوه والصور والتجليات، ومعجمه الشعري يميل الى حال من الغرابة في مصطلحاته وتراكيبه ومرجعيّته الواسعة...وأشارت الاكاديمية في براءة الجائزة أنّ ترانسترومر «يعطي منفذا جديدا على الواقع من خلال صور مركزة وواضحة «. و لطالما وُصف ب «المسفار»، بعدما جاب الكثير من البلدان والمدن، كاسراً الجدران ومخترقاً الحدود التي تقسم العالم عالمين وأكثر والتي كانت ثير قلقه. هكذا تنقل ترانسترومر، قبل أن يحل به الشلل، بين فيتنام وإيران والكونغو ونيويورك وشنغهاي واليابان واليونان وبراغ والخرطوم وسواها بالواقع كما بالمخيلة. وكان لأفريقيا النصيب الأكبر في شعره ورحلاته، وراح يبحث فيها عن «عري الأصياف في لقاء مباشر مع الشمس» كما يقول. وتمثلت افريقيا في ضمير الشاعر ومخيّلته «صورة حادة للآخر»، ما أضفى على شعره ونثره طابعاً إنسانياً وكونياً، وجعله بديلاً وجودياً «تستطيع الذات عبره ان تدافع عن هويتها» وتتحرر من ربقة الاغتراب أو الاستلاب. وكتب مرة قصيدة عن رجل افريقي قال فيها بجرأة نادرة: «جئت لألتقي ذلك الذي يرفع فانوسه ليرى نفسه فيّ». العالم واحد في شعر ترانسترومر وفي وجدانه. وقد عرف كيف يتحرر من ربقة الزمن والمكان، وسعى الى تأسيس زمنه ومكانه اللذين هما زمن الإنسان ومكانه، في صميم اللحظة الشعرية حيث «الزمن إنساني» وحيث يتجاوز المكان «الجغرافيا التعسفية». هكذا يُعدّ ترانسترومر نفسه شاعراً يكتب على «خط الحدود أو على الحد الفاصل بين العالم الداخلي والعالم الخارجي»، وهذا الحد يسميه «حاجز الحقيقة». ولئن بدا ترانسترومر شاعراً ملتزماً يعاني ما يعانيه الإنسان، فهو لم يمل البتة الى القصيدة السياسية والخطابية وابتعد عن أي نشاط سياسي وإيديولوجي. أما التزامه الحقيقي فكان موزّعاً بين الالتزام الإنساني والجمالي. «كل مشكلة تصرخ بلغتها» يقول ترانسترومر وفي يقينه ان الشعر فن يفصح عن العالم. توماس ترانسترومر شاعر مقلّ كما أشارت الاكاديمية، لكنه استطاع منذ ديوانه الأول «17 قصيدة» الذي صدر العام 1954 وكان في الثالثة والعشرين من عمره، ان يفرض اسمه في طليعة شعراء الخمسينات. وقد يكون الشلل الذي أصابه قبل عشرين عاماً فرض عليه الدخول في حال من الصمت الذي يصفه ب «الصمت المقدس»، وهو صمت اللغة التي تتخطى تخوم الكلمات. - نوبل الآداب الى الشاعر السويدي توماس ترانسترومر ... أدونيس مقدماً صديقه الفائز: حضور في أحضان الكون