ماذا لو كان عندك آلة تسافر عبر الزمن وأنك قررت أن تقوم برحلة طويلة إلى الماضي.. ولنقل إلى العصر الأموي. تصور الآن أنك التقيت بالفرزدق، الشاعر المعروف.. وبعد حديث شائق معه.. أخبرته بأن لديك جهازا مستطيلا بحجم الكف، وأنه عبر هذا الجهاز يمكن له أن يتجاذب أطراف الحديث مع أحد الجند المرابطين في الأندلس. ما سيكون موقف الفرزدق؟ سيقول: هذا مستحيل؟ وربما نظم قصيدة هجائية في هذا الحمق الذي تقول. انتهت قصة آلة السفر عبر الزمن.. ومن رغب في التشويق والإثارة فليشاهد الفيلم الشهير بأجزائه الثلاثة (العودة إلى المستقبل). وما يهمنا الآن هو كلمة (مستحيل). ما معنى مستحيل ولِم قال الفرزدق إن ذلك مستحيل ونحن كلنا اليوم نعرف أن «الهاتف النقال» شيء واقعي ومعقول؟ مبدئيا معنى «استحالة الحدث» هو امتناع وقوعه. والسبب قد يكون عقليا (فلا يقبله العقل) أو واقعيا (إذ تعارضه قوانين الطبيعة). فلنفصل في هذين النوعين من المستحيل: العقلي والواقعي. المستحيل العقلي هو ما يرفضه العقل مطلقا لأنه يخالف مبادئه. أشهر مبادئ العقل كالتالي: الهوية، عدم التناقض، والثالث المرفوع. إضافة إلى مبدأ السببية والتجربة الحسية. وقد أشرنا في المقال السابق إلى أن المبدأين الأخيرين هما من مبادئ العقل. مبدأ الهوية ينص على أن محمدا هو محمد وليس عليا. وأن النهار نهار وليس ليلا. وهو مبدأ بدهي. ولكنه مهم في تفكيرنا اليومي. لنأخذ مثالا على المستحيل العقلي: يوجد دائرة مثلثة!. الدائرة شيء والمثلث شيء مختلف.. ولكل شكل هندسي «هوية خاصة». وإذا خلطنا بينهما في هوية واحدة نكون قد انتهكنا أهم مبادئ العقل وهو الهوية. من هنا فوجود دائرة مثلثة أمر مستحيل استحالة عقلية ( وبالتالي واقعية). من أمثلة المستحيل العقلي وجود خطين متوازيين يلتقيان. وهو مستحيل لأن التوازي حسب تعريفه الإقليدي لا يسمح بذلك. من الملاحظ أن المستحيل العقلي مرتبط بالتعريف الذي نضعه للشيء. فإذا قلنا إن (الأعزب هو الرجل غير المتزوج) سيكون عندها مستحيلا أن يوجد أعزب متزوج. لننتقل إلى المستحيل الواقعي وهو أكثر التباسا. الفرزدق يرى أن وجود جهاز ينتقل الكلام مباشرة عبر آلاف الأميال أمر مستحيل. فهل رأي الفرزدق صحيح؟ بالطبع لا. فوجود الجهاز ليس مستحيلا بل «ممكن». لكن، لننظر في المثال التالي: لو قال لي عمرو إنه رأى زيدا يطير في السماء بدون مساعدة خارجية من آلة أو حبال أو نحوها.. فما سيكون ردي؟ شخصيا سأقول: مستحيل. صحيح أن عمرا قد يكون رأى زيدا يطير.. لكن ربما كان عمرو يمر بحالة هلوسة أو ربما كانت هناك حبال تحمل زيدا دون أن يراها عمرو. لكن أن يكون زيد يطير بلا مساعدة فأمر مستحيل واقعيا. لِم؟ وما الفرق بيني وبين الفرزدق؟ الجواب بسيط. في حالة الفرزدق.. كانت هناك آلة متطورة تم اختراعها بناء على فهم دقيق لقوانين الصوت والموجات والفيزياء عموما.. وهذه الآلة لم تخرق قوانين الطبيعة بل استثمرتها وطورتها وسارت على هديها. أما في حالة الرجل الطائر فلا بد له من مساعدة آلة. من هنا فالمستحيل الواقعي هو ما يضاد قوانين الطبيعة وليس ما يسير معها. هناك نقطة مهمة للتمييز بين الممكن الواقعي والمستحيل الواقعي. حالة الجهاز النقال متكررة ويمكن لكل شخص التحقق منها واستخدامها ورؤيتها رأي العين.. ولو كانت مقصورة على أشخاص بعينهم لشككنا في الأمر. مثلا.. لو قال زيد إنه رأى عفريتا له ذيل في طرفه نار .. فإن قول زيد مستحيل واقعي إلا في حالة واحدة.. وهي أن نرى كلنا ذلك العفريت وأن ندرسه ونفحصه. ولو أحضر زيد معه شهودا فلن نطمئن للموضوع.. لأن ما هو «واقعي» يجب أن يكون قابلا للتحقق وأن يكون الناس قادرين على إدراكه متى ما شاءوا.