الراي -الكويت (أنا ملحدة... أعلنها لك وللجميع بصراحة ولا أشعر بأي حرج من التصريح بل والافتخار بذلك)!! تلك كانت العبارة التي استهلت بها الفتاة الجامعية ذات الشعر القصير مداخلتها وحديثها المباشر لي، وقد أتبعتها بطرح جملة من التساؤلات الاعتراضية (الناقدة) لبعض مما جاء في محاضرتي، وزادت عليها تحفظاً (صارماً) على منهجي العلمي في تناول الموضوع. حدث ذلك في المدرج المكتظ عن آخره بطلاب وطالبات الجامعة الأردنية في العاصمة (عمّان)، وعقب فتح باب الأسئلة والتعليق على محاضرتي (الملاحدة الشجعان) التي نظمتها كلية الشريعة في الجامعة وفتحت باب الحضور فيها لعموم الطلبة، ما خلق حالة من التنوع (المطلوب) لمختلف القناعات والاتجاهات الفكرية والثقافية والاعتقادية. وبما ان موضوع المحاضرة جاء استعراضا لتجربة حوالي 20 شخصية من أهم رجال الفكر والأدب والثقافة العرب ممن مروا في حياتهم بحالة من التشكك أو إنكار الخالق أو التغريب، ثم ما لبثوا لاحقاً أن صوبوا مسارهم وأعلنوا ذلك بجرأة ووضوح على الملأ، ونتيجة للاستفزاز الإيجابي الذي حمله عنوان المحاضرة (الملاحدة الشجعان) والذي أثار انتباه وفضول كل من يعنيهم الأمر، سواءً لناحية المهتمين بالجانب الشرعي والدعوي، أو لناحية الطرف الآخر (النقيض) ممن يحمل تساؤلات وشبهات تشككية في الخالق والدين، ووصولاً لمعتنقي الأفكار الإلحادية الصريحة كحال (ابنتنا) الطالبة، ورهط من نظرائها الذين حضروا الفعالية وشاركوها التعليق والنقاش. وبعيداً عن الخوض في تفاصيل ما قالته (ملحدة كلية الشريعة) وزملاؤها وردي عليهم، ومقدار تمكني من تغيير قناعاتهم، وهو هدف لم يكن حاضراً في ذهني بقدر ما كان يسيطر علي من رغبة في التأصيل لقواعد المنهج العلمي والمبادئ الأساسية، التي تصلح لأن تكون أرضية مقبولة وقاسماً مشتركاً يمكن أن نتفق ونحتكم إليه كمتحاورين متناظرين. وبعيداً أيضاً عن تسجيل إعجابي بمناخ الوعي والنضج والاستيعاب للآخر (المخالف) الذي تحلى به شباب وشابات كلية الشريعة، إذ سمحوا للطالبة الملحدة ورفاقها بالتحدث بكل ما بخاطرهم بحرية تامة لم تخدشها أي محاولة للمقاطعة أو التشويش أو التقريع، وقد تجاوزوا جميعهم وقبلهم مقدم الندوة رئيس قسم أصول الدين في الكلية دكتور سليمان الدقور، تجاوزوا بصدر رحب شعور الاستفزاز البّين لقناعات وعقيدة الغالبية المتدينة في القاعة في بلد كريم يفخر ويعتز بهويته الإسلامية، منحازين بذلك للمنهج القرآني والنبوي في محاورة المخالف ومجادلته بالحجة وباللين و(بالّتي هي أحسن). بعيداً عن كل تلك الانطباعات وغيرها، وانطلاقاً من هذه الحالة ومثيلاتها من الحوادث (المتكررة)!!، فقد بت أشعر بالضرورة والحاجة الملحة للإشارة (ولو على عجالة) لبعض أهم معالم الخوض في هذا الميدان. فنحن اليوم،، وفي زحمة التبعثر الثقافي وطريقة القفز (الزنبركي) السريع في التنقل بين موضوعات العلم والمعرفة العامة والكتب، وما توفره مواقع التواصل الجديدة والمتنوعة مع غياب المنهج العلمي والعقلي المنضبط والواضح، قد تجعل الإنسان صندوقاً أو مخزناً للمعلومات، لكنه في الوقت ذاته يفتقر إلى الدقة والصواب في إصدار الأحكام على عالم الأشياء والأفكار. وعليه أضع بين يدي القارئ والمتخصص جملة من المبادئ والمعالم والقواعد العقلية والعلمية التي يحتاجها الباحث والشباب على وجه الخصوص، للاقتراب من الحقيقة وتجنب العثرات الفكرية في عالم مشحون بصراع الاتجاهات والشبهات والتناقضات. فمن ذلك : * أهمية تحديد المنطلقات بين المتحاورين والتأسيس للمتفق عليه بينهم، وبهذا نختزل كثيرا من نقاط الخلاف ونوفر الجهد والوقت. * التفريق بين (القناعات) المبنية على الأدلة وبين (الانطباعات) العامة، وهذا فرع عن التفريق بين (الموضوعي) و(الذاتي). * إدراك علاقة الإثبات والنفي بين (التصور) و(التعقل) فاستحالة الأول لا تلغي إمكان وجود الثاني. * في الحوار مع المخالف ضرورة التفريق بين (القول) و(لازم) القول البعيد. * أهمية الاستيعاب الدقيق لأقسام الحكم العقلي الثلاثة المتمثلة في : (الواجب) و(الممكن) و(المستحيل)، لأنها تحل إشكالات ذات صلة بالعلوم الطبيعية والتصورات الفلسفية والقناعات الإيمانية، مثل الفرق بين المستحيل العادي (الفيزيقي) والمستحيل (العقلي). * إزالة اللبس المنتشر لدى العامة وجمهور المثقفين بين مفهومي (التضاد) و(التناقض) والذي تخبط فيهما ملاحدة الماركسيين دهراً طويلا. * قاعدة : (عدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود) أو (عدم العلم ليس علماً بالعدم)، فكوني لم أصل إلى وجود أو نتيجة أو اكتشاف الحكمة لا يعني أنها ليست موجودة. * سؤال : هل العلم يتبع المعلوم؟ أم المعلوم يتبع العلم؟ بناء على الجواب يتجلى لنا أن العلم وسيلة لهدف، وعليه فمن قدس العلم (الوسائل) يلزم منه تقديس المعلوم (الطبيعة)، بتفاصيلها (مثل البكتيريا وغيرها)!! * العلم يتضاعف بمتوالية حسابية، بينما يتضاعف الجهل بمتوالية هندسية، وهذا مدعاة للتواضع العلمي كما هو شأن العلماء الكبار، والتخلص من الغرور كما هو حال بعض مثقفينا!! * في السنوات العشرين الأخيرة تجاوز العلماء اختزال مفهوم (الكون) التقليدي بأنه طاقة ومادة إذ اعتبروا (المكون المعرفي) أهم مكونات الوجود، فمن أين جاءت القوانين والثوابت الكونية، ومن ذا الذي يشغلها وينسق بينها ويدفعها للانضباط ويوجهها بفاعلية إيجابية دقيقة تسير إلى نظام متكامل ذي غاية. * تراجع فكرة كون (الإجماع العلمي) consensus science دائما إلى جانب الحقيقة مثل الاعتقاد بأن الخلية متخصصة، لتأتي تجربة استنساخ النعجة (دوللي) وتسقط فكرة هذا الإجماع. ومثل رفض معظم البيولوجيين مفهوم الانتخاب الطبيعي للنظرية الداروينية 1900م. * التنبيه إلى برهان «الترجيح بين أنسب التفسيرات» Explanation Best Inference To The في بعض العلوم كالبيولوجيا وقضية «نشأة الكون». * الخلط بين المعلومة العلمية وبين تأويل المعلومة، وأشهر مثال على ذلك بناء أول خلية حية مُجَمَّعة توصل إليها العلماء في مايو عام 2010 وهو ما دفع كل من المؤمنين والملحدين لتأويل الاكتشاف لصالحه (انظر كتاب كيف بدأ الخلق للدكتور عمرو شريف). * في علم المنطق ومناهج البحث يتم التركيز على ضرورة تحديد التعريفات ودلالة المصطلحات وقد ازدادت الخلافات في المحاورات للإخلال بهذا المطلب «العدم، العلم، العقل، الزمن، البديهة، المسلَّمة...»، خذ على سبيل المثال مصطلح (الصدفة) وكيف تخبط الملحد (ريتشارد داوكينز) في فهمها والخلط بين أنواعها في نماذجه التطبيقية الفاشلة (منطقيا) و(رياضيا) في كتابيه (صانع الساعات الأعمى) و(وهم الإله). وفي محاضرتي (الملاحدة الشجعان) طلبت من شاب صرح بأنه ملحد أن يعرف التصوف فشطح بعيداً. * ضرورة التفريق بين العلم من حيث البحث في الكيفيات المادية ووصف الظواهر وتحليلها وبين الاستخلاصات الفلسفية والمعرفية منها. فالخلاف مع الملاحدة أو (اللاأدريين) ك(ستيفن هوكنج) وغيره، ليس في الجانب العلمي، فهذا شأن المتخصصين، وإنما الخلاف في النتائج الفلسفية في النظر لما وراء العلم (كوجود الله من عدمه) و(التصميم الذكي). * مما ينبغي الالتفات إليه أننا نجد عالم فيزياء ملحدا وآخر مؤمنا، وثالثا متشككا ورابعا (لاأدرياً)، وخامسا حائرا، وسادسا غير مبالٍ، وكذا في بقية العلوم الطبيعية فلكية وبيولوجية وكيميائية... الخ. ما يطرح تساؤلات حول طبيعة الإلحاد ومصدره هل هو قضية علمية أم فلسفية أم نفسية أم أنها متداخلة؟! * سوء استخدام المفاهيم العلمية ومثال ذلك الخلط بين (القوانين الطبيعية) و(القوانين الفيزيائية) فالأولى هي الظواهر الطبيعية الكونية بينما الثانية هي تصوراتنا الذهنية، وصياغاتنا المنطقية لما تم رصده كونيا، وعليه فإن القانون (الطبيعي) ثابت دائم لا يتغير بينما القانون (الفيزيائي) يتغير مع الزمن. وأشهر مثال على ذلك ظاهرة الجاذبية الطبيعية التي صاغها نيوتن بقانون فيزيائي رياضي ثم جاء آينشتاين بعد أكثر من قرنين 1916 ليبين أن الجاذبية ليست قوة كامنة في الكتل وإنما هي تحدُّب في (الزمكان) فكان قانونه أكثر دقة وصحة وعمومية من قانون نيوتن الذي كان حالة خاصة تقريبية تصح في السرعات الضعيفة. وهنا يأتي السؤال: هل مقولة ان القوانين الطبيعية تثبت أن الكون لا يحتاج إلى خالق. صحيحة؟ والجواب في ما يقوله (ميكانيكا الكم) من أن الظواهر الطبيعية لا تحصل بمجرد توافر شروطها أي أنها ليست (حتمية) وإنما هي احتمالية وأن (قوانين الفيزياء) لا تستطيع إلا أن تحسب الاحتمالية ولكن لا تتحكم بها!! ومن ثم لا يمكن الزعم بأن (القوانين الطبيعية) تعمل لوحدها وبهذا يتجلى اعتبار الجزم بأن (قوانين الفيزياء) أو (الطبيعة) تسمح للكون أن يخلق نفسه بنفسه نوع من الخداع باسم العلم، كما قال الفيزيائي البروفيسور محمد باسل الطائي. * عند تناول أي قضية اجتماعية أو فكرية (كالإلحاد) مثلا، علينا أن نميز بين الظاهرة (الطبيعية) والظاهرة (الإنسانية) متسائلين هل الإنسان ظاهرة فريدة في الكون أم أنه جزء لا يتجزأ من الطبيعة؟ لقد انتهت العلوم الإنسانية إلى أن الظاهرة الإنسانية أكثر تشابكا وتعقيدا من الظواهر المادية، وأنها أقل تكرارا وتماثلا ولا تخضع للتعميم في الأحكام، وأن الألفاظ المستخدمة في العلوم الإنسانية (كيفية) بخلاف العلوم الطبيعية (كمية) كما أن الظاهرة الإنسانية لا تخضع للحياد والموضوعية والدقة بالدرجة التي تخضع لها العلوم الطبيعية... الخ. وهذا ينفعنا في تجنب تعميم الأحكام على الملاحدة لاختلاف الدوافع والأهداف والظروف والتجارب لكل ملحد وفي كل زمان، من هنا كان لابد من تفصيل القول في أنواع أو أصناف أو أقسام الملاحدة لأنهم ضمن الظاهرة الإنسانية. * الاطلاع على الكتابات الجادة والجديدة في موضوع الإلحاد ومتعلقاته تساعد الباحث على توسيع المدارك واختصار الجهد وتركيزه، وأُرشح بعض الكتب في هذه العجالة ما تسعف به الذاكرة كي تعم بها الفائدة. كتاب (خرافة الالحاد) د. عمرو شريف، كتاب (ميليشيات الإلحاد الجديد) أ. عبدالله العنجري، كتاب (ثلاث رسائل في الإلحاد) أ. عبدالله الشهري، كتاب (تفنيد الأسس النظرية والعلمية للإلحاد) أ. سعيد فوده، كتاب (خرافات الطبيعيين) أبو الفدا بن مسعود، كتاب (تحرير العلم) أو (وهم العلم) للإنكليزي روبرت شيلد ريك وهو خصم لريتشارد داوكينز في مفهوم العلم ومنهجية تطبيقاته. وأخيراً،، فهذه بعض القواعد العلمية والفكرية في محاورة المتشككين والملاحدة، أتيت على جزء يسير منها في نقاشي مع ملحدة كلية الشريعة، ويعرفها ويزيد عليها العلماء والمتخصصون، وكم أتمنى لو أدلى كل عارف وصاحب تجربة بدلوه في المجال، فالتحدي جدّي وكبير، وناقوس خطر (الهجمة الإلحادية) دق أبواب بلادنا وبعض بيوتاتنا منادياً لتضافر كل الجهود.. جهود كل عشاق الخير والحب والهداية والنجاة لأبنائنا وبناتنا بل وللبشرية جمعاء. نسأل الله لهم ولنا وللجميع الإيمان والثبات. mh-awadi@