تولدت في داخلي قناعة مطلقة أن ثمة ما يحاك ضد وطننا وأمننا ووحدتنا، لا يزال خطره قائما رغم السيطرة الأمنية الضاربة في عمق الإرهاب، لكن لا تزال جماعات خفية تستغل البسطاء لتحقيق مآرب باتت مكشوفة النقاب، وأصعب اللحظات في اعتقادي حين تقف حائرا في معرفة المحرك الأكثر فعالية في تحفيز سلوكيات إنسان ما صوب جريمة متعدية الضرر للمجتمع بأكمله، حينها تتصارع في دواخلك الأسئلة.. أيهما يدفع كل هذا الجنوح، أهو الدافع السيكولوجي المبني على تراكمات بيئية وأسرية أم ذلك الدافع الأيديولوجي المنطلق من أبعاد لا تخفى على كل ذي لب، ومع كل هذا أجزم أن الصمت عن أي سلوكيات أو أيديولوجيات تمس أمن الوطن في أي بقعة من خارطة المملكة جريمة لا يمكن الوقوف في صف المطالبين بها سواء تحولت تلك القناعات الأيديولوجية إلى سلوكيات عملية أم لم تتحول، لذا يمكن الحكم أن ما يصح من ذلك على سلوك الأفراد فإنه يصح كذلك على سلوكيات المجتمعات ما لم يكن هناك صوت رشيد عاقل ينبع من باطن المجتمع الواحد الراغب في الاستقرار والحياة الآمنة بعيدا عن كل صراعات الاختلاف. ومن خلال لقاءات متتالية لموقوفين تورطوا في أعمال عنف وشغب في المنطقة الشرقية تحديدا خرجت برؤية أن سيكولوجية الجنوح إلى الهدم هي جزء من القواسم المشتركة بين أغلب الموقوفين، لاسيما ونحن ندرك بوجود قوتين كامنتين في الطاقة البشرية (قوة البناء، وقوة الهدم) كلما رأى العدو تنامي الأولى (البناء) زاد من معاول الأخرى (الهدم). كل هذا المدخل هو جزء للبداية في قراءة لقاءات موقوفي الشغب في سجن المباحث بالدمام لقراءة المشهد الذي كان مثار حديث وجدل. حرصت في جولتي أن ألتقي نماذج مختلفة من المتورطين في أعمال شغب وعنف، فطلبت أن أرى بعض المطلوبين في قائمة ال23 الشهيرة، وخصوصا ممن أفرج عنهم سابقا وعادوا لنفس النهج، كنت أسعى لمعرفة الدوافع الحقيقية وراء ما جرى لهم ولم عادوا لما كانوا عليه رغم تسامح الجهات الأمنية معهم سابقا، وفي سجن مباحث الدمام مكنت من لقاء الموقوف الأول (م. ج) وهو شاب في العقد الثالث من عمره، تحدث بكل شفافية وهدوء، وقال: «أعلم أن سؤالك الأول لي سيكون: ما الدافع لتورطي في هذا العمل؟ لذا سأختصر عليك الطريق وأجيبك بكل وضوح، لا أعرف سببا منطقيا لهذا، كل ما أدركه أنني كنت مندفعا كغيري من شباب المنطقة، خرجنا للشوارع دون وعي بخطورة ما نعمل، لا أخفيك تأثرنا بوسائل التواصل الاجتماعي ونداءات الرموز الدينية بالخروج في مظاهرات، كل ذلك بلا شك كان حاضرا في المشهد، لكن ثمة ما هو أسوأ في اعتقادي دفعنا لذلك وهو غياب الوعي الذاتي ومحاسبة الضمير ومراقبة الله أولا وأخيرا، لك أن تتخيل أنني كنت أفكر في قتل والدي فعلا، حيث كان يمنعني من المشاركة في مثل هذه الأعمال وتخاصمت معه ذات يوم في المنزل فأطلقت عليه النار من مسدس كنت أحمله بغية قتله، لكن الله أنجاه من رصاصتي الطائشة وهربت حينها من المنزل وعشت في المزرعة». ويضيف: «الجهات الأمنية تعاملت معنا بكل حكمة، حيث أوقفت فترة أولى ثم أطلق سراحي في منتصف عام 2012م مع أربعة من نفس القائمة، حيث رأت الجهات الأمنية عدم تورطي في أعمال خطرة حينها، وقررت منحي فرصة للعودة وهي بلا شك فرصة ذهبية لي للعودة إلى الطريق الجاد، لكن لم أتعظ بما جرى، قضيت بعضة أسابيع وعدت للتفكير في محاولة إثارة الفتنة مجددا بالانخراط في جماعات تنادي بالخروج للشوارع، وهنا أبلغ عني والدي الجهات الأمنية التي أعلنت اسمي ضمن قائمة المطلوبين أمنيا، وعلى الفور جلست مع نفسي لمراجعة ما أحدثته يداي، فقررت تسليم نفسي للجهات الأمنية وهنا أقضي عقاب ما شاركت فيه من محاولة لزعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة بلا هدف أو رؤية ولعلي من خلالكم أوجه نصحي للشباب في سني ممن هم قد ينصاعون وراء الفتن والمنادين لها بأن يدركوا أنهم مستهدفون حقا ليكونوا حطبا لفتنة تدار خارجيا وتحاك ضد الوطن وأهله وهذا ما أدركته بعد تورطي مع مجموعة من المحركين للفتنة». لا للعنف وحمل السلاح وبلغة أقرب ما تكون للعقلانية والنضج كان يتحدث الموقوف (ع. ع. م) أحد المطلوبين في قائمة ال23 أيضا فيقول: «لم أعد أؤمن بالعنف ولا حمل السلاح، فتجربتي هذه أيقظت في داخلي الوعي الحقيقي بأهمية الوطن والأمن، كلامي هذا ليس جزافا ولا نفاقا بل واقع بعد وقفات تأمل مع الذات، قبضت الجهات الأمنية علي في صفر من عام 1433ه بعد توفر معلومات عن وجودي مع ثمانية أشخاص آخرين من المطلوبين في قضايا تهريب وترويج المخدرات في أحد المنازل ببلدة العوامية، حيث تمت مداهمتنا والقبض علينا.. مازالت أذكر المشهد المأساوي في محاولتنا النيل من رجال الأمن بإطلاق النار عليهم للحيلولة دون القبض علينا لكن لم تفلح كل المحاولات وتم القبض علينا، وهنا نجد تعاملا رائعا من رجال الأمن وإدارة السجن، كل حقوقنا كمواطنين نحصل عليها في السجن، يصرف لنا مكافأة مالية شهرية وتوفر لنا رعاية صحية فائقة ونواصل تعليمنا هنا وأمام كل هذه الخدمات والرعاية غير المتوقعة مازلت أتذكر حجم الخطأ الفادح الذي اقترفته أيدينا، حيث كنا ننخرط في التجمعات الغوغائية، ونحاول عرقلة حركة المرور داخل الأحياء، وإتلاف الممتلكات العامة والخاصة، وحيازة أسلحة نارية بصفة غير مشروعة، وإطلاق النار العشوائية على المواطنين ورجال الأمن، والتستر بالأبرياء من المواطنين ومحاولة جرهم إلى مواجهات عبثية مع القوات الأمنية تنفيذا لأجندات خارجية وتوجهات لم نكن ندرك أبعادها، لذا أرى أن من الضروري توعية المجتمع الخارجي بهذا والعمل أيضا على إعادة تأهيل الموقوفين هنا من خلال التوسع في برامج المناصحة داخل السجن لإقناع المتورطين في هذه الأعمال بالعودة عن فكرهم، لا بد أن يؤمن الجميع أن قيادة هذا الوطن لم تفرق بين طوائف المجتمع نهائيا وهذا والله ما أدركته بعد الانزلاق في الطريق الخاطئ، فلقد وجدنا الرعاية التي لا تفريق فيها بين الموقوفين وفق توجهاتهم أو طوائفهم». رصاص الغدر كان الحديث مع الموقوفين يمتد لساعة مع كل منهم، كنت أحرص أن أقرأ ملامح الشخصية لكل منهم ومعرفة ما يدور في فكره من تصور للمستقبل وما يخفيه من الآلام التي تركها الماضي في ذاته، وهنا يدخل علي موقوف لم يتجاوز عمره 22 سنة، فالشاب (ع. ح. ف) أحد المشاركين في استهداف رجال الأمن في العوامية تحديدا، لم تبدو عليه سمات الجريمة لذا بادرته بسؤال سريع: «شاب مثلك غريب أن يكون هنا فيبدو أنك من عائلة عريقة ومتعلمة»، هنا تبسم وأجابني: «شكرا لذوقك، أصبت جزءا من الحقيقة وغاب عنك الجزء الآخر، أنا فعلا من عائلة معروفة لكنني لم أتمكن من مواصلة تعليمي حيث توقفت عن الدراسة بعد المرحلة الابتدائية، وهنا كان الفراغ يملأ حياتي، حاول والدي أن أكمل الدراسة لكن لم أوافق، قناعتي بأن أكون مع رفاقي في السهر والسفر قادتني لضياع المستقبل».. قاطعته قائلا: «وما سر وصولك هنا وما التهمة الموجهة لك؟».. أجاب: «تعمد إطلاق النار على مركز شرطة العوامية غير مرة، لم أكن أفعل ذلك لأهداف سياسية أو مجتمعية يراد بها الإصلاح.. بل كان عملي منطلقا من البحث عن المال ولاسيما بعد توقف والدي عن دفع المال لي، كنت أقضي وقتي خارج العوامية ولا أعود إليها سوى لتنفيذ مهمة، حيث كان يردني اتصالات متعددة من أشخاص أجهل بعضهم وأعرف البعض.. يطلبون مني تنفيذ مهام وكان معي أحد رفاقي، كنا نتفاوض على سعر المهمة الذي يبدأ من 500 ريال لكل منا ويصل إلى 1500 ريال، حيث نقوم بإطلاق النار على الدوريات الأمنية وتوثيق ذلك بالتصوير والعودة لاستلام المكافأة، ليس بالضرورة أن نقتل رجل الأمن لاستلام المال فيكفي إثارة الرعب، وقمنا بإطلاق النار على مركز الشرطة ذات مرة، كانت الرصاصة تعادل 1500 ريال وهي رصاصة الرعب، الحقيقة لم نكن ندرك الأبعاد من وراء هذا العمل وهو إثارة الرعب وزعزعة الأمن كان هدفنا المال فقط، لم أدرك كل هذه الفداحة في عملي سوى بعد الجلوس مع المناصحة في السجن، حيث أدركت حجم الخطأ الذي وقعت فيه وأدفع ثمن ذلك بالسجن وأطلب السماح من المجتمع الذي فعلا حاولت أن أكون أحد معاول الهدم بإشاعة الفتنة فيه». التنكر في زي النساء أنهيت حديثي مع هذا الموقوف الذي ترك في رأسي تساؤلات عمن يقف وراء هذا الحراك ومن يدفع المال في سبيل إثارة الفتنة وزعزعة الأمن، ومن يحاول جاهدا توظيف أبناء الوطن البسطاء في هدم الكيان الواحد تحت حجج واهية وغير منطقية، تساؤلات دارت في مخيلتي قبل أن أجلس مع الشاب (ح. ح. ع) الذي لم يجاوز عمره 22 سنة، وكان ضمن قائمة المطلوبين للجهات الأمنية، حيث يقول عن قصة القبض عليه: «أنا شاب أحمل شهادة الابتدائية فقط، وكنت أعمل في سوق الخضار لكنني قررت الالتحاق برموز الفتنة وأعرتهم سمعي حتى قبض علي في محافظة القطيف، إثر مداهمته بعد المغرب في أحد أيام شهر شوال من عام 1433ه وكان بحوزتي بعض الممنوعات وحاولت الفرار والمقاومة وتبادلت إطلاق النار مع رجال الأمن فأصبت في قدمي نتيجة تبادل إطلاق النار مع رجال الأمن وتلقيت العلاج وأنا أتمتع بصحة جيدة». ويواصل اعترافه ل «عكاظ»: «شاركت في أعمال الشغب وإطلاق النار على مواطنين، مع استهداف رجال الأمن وكنت أجيد التخفي والتنقل بين مزارع وأزقة بلدة العوامية خلال الفترة التي كانت الأجهزة الأمنية تحاول القبض علي وقد ظهرت في إحدى المرات متخفيا بعباءة امرأة في محافظة القطيف وقمت بإطلاق النار على مواطن من بلدتي من مسدس وحينها كنت فعلا مرتديا زيا نسائيا (عباءة سوداء)، وقد حاولت الالتقاء بأحد رموز الفتنة في المنطقة لكن شعرت بتواجد أمني ففررت منهم حينها ولم أتوقف عن حراكي». ويضيف الموقوف اعترافاته ل «عكاظ»: «كنت أدعم المطلوبين وأرتب لهم عمليات إخفائهم وأحرص على الفوضى داخل البلدة، وقد استمديت ذلك من خلال علاقتي الوطيدة مع أحد الرموز المقبوض عليه حاليا، وقد ظهرت في مقطع مصور على الإنترنت، كنت أتجول في إحدى المزارع في محافظة القطيف مدعيا أنها منزلي الذي تسكنه عائلته في محاولة منه لاستعطاف الجمهور وأجهزة الإعلام غير الرسمية».