? كتب: عواض شاهر العصيمي شارك من خلال تويتر فيسبوك جوجل بلس اكتب رأيك حفظ امتدت صداقتنا لأكثر من ربع قرن، وكانت لها تجليات جميلة على الصعيد الإنساني، لكنها في فضاء الإعلام الشعبي مرت في بعض الأحيان بخفوت نسبي بسبب اختلافات في وجهات النظر. غير أن اللقاءات القليلة التي تمت بيننا على فترات متباعدة، كانت لا تنسى. آخر لقاء جمعني به كان قبل حوالي سبع سنوات، حيث زرته في أحد المستشفيات، وكان وقتها مضطرا للمكوث على السرير ريثما يتعافى. كان لطيفا ومهذبا مثل محمد النفيعي من قبل ومن بعد، كان ينضح جبينه بالود الإنساني؛ كما لو أنه قابل العالمين أجمع، ولم يك استقباله ذاك على منوال هذا «الاستقبال إنما هو لفلان بعينه دون غيره»، وإنما كان لكل من يلتقي به في زيارة أو في مكان عام. وكنت، وقد باعدت بيننا الحياة والمشاغل، أتابع أخباره شاعرا وصحافيا وكاتبا عبر الفضاء المحلي. عمل في صحيفة البلاد محررا لصفحة «مواسم» الشعبية فأضفى عليها من لمساته الصحفية والشعرية ما أهلها لأن تشارك على نحو ما في عملية تجديد القصيدة التي كانت متوهجة في فترة الثمانينيات عبر عدد من الشعراء الشباب، وكان الشاعر محمد أحدهم، ولكن مساحة «مواسم» كانت بالمقدار نفسه تقريبا تمنح ذوق محمد الصحافي والشاعر ناصية المحرر العارف بما يصنع وما يقول. بالإضافة إلى ذلك، نشر الكثير من مقالاته وأشعاره في فضاء الإعلام الشعبي على مستوى الخليج، وساند على نحو لافت صفحة «سوالف ليل» التي كانت عبر صحيفة الرياضية تتعاطى مع فضاءات الشعر الشعبي وصحافته بطرائق صحفية فيها إثارة تقترب من الاستفزاز على حساب الإبداع، لكنها كانت تمر بذكاء طالما رفع من مستوى الاهتمام العام بما تنشره الصفحة، ولم يكن ثمة ضحايا أو مغبونون في سياق ما طرح آنذاك، لكن الصفحة توقفت أو أوقفت عن الاستمرار في شكل غامض، وقد قيل وقتها الكثير من الأسباب، ولعل منها ما تردد عن إغضاب أحد الشعراء ذوي الوجاهة الاجتماعية المعتبرة، فأدى ذلك إلى إيقاف الصفحة عقابا لمحررها عبدالرحمن بحير. كان محمد النفيعي على درجة من القرب بالصفحة وبمحررها، بحيث يمكنه كما أظن تفنيد ما حدث وتفسيره وذكر الأسباب الأقرب للحقيقة، لكنه لم يستمزج هذا الكشف أو لم يشأ الخوض فيه ربما لأن الدخول في دواماته لا يعنيه في شيء ذي أهمية، وإنما يعني محرر الصفحة في المقام الأول، وليس من اللائق أخذ مكان الغير في أمر لا يخصه. كانت هذه إحدى خصال محمد، احترام ما ليس له حق في اقتحامه، والترفع عن فتح الكلام في خصوصيات الغير، غير أنه حين يحتد النقاش في شأن خلافي بينه وبين أي كان، كان لا يتراجع القهقرى في قول رأيه وإن غضب منه الآخر، وكان في تصديه لبعض من يخالفه الرأي لا يخلو من صلابة قد تؤذي أحيانا، ولكن لم يكن ذلك بقصد التشفي، وإنما من باب المعاملة بالمثل. كان إذا كتب قصيدته حدثت مودة جمالية بينه وبين اللغة، ليس فحسب على صعيد كتابة القصيدة، وإنما أيضا على صعيد ما يعيشه لحظة الكتابة، كان بطريقة ما يستغل حضور القصيدة ليعبر عن مدى امتنانه للغة بتذوقها في شكل عميق فيما هو ينشئ النص، إنها علاقة حميمة أشبه بالتعاطي الصوفي مع الأشياء الماكنة في الذات. أذكر أن نقاشا حول هذه النقطة قد دار بيننا ذات مرة، وكان لحظة دخوله في وصف الحالة يتحدث بما يقترب من وصف حالة العاشق بالمعشوق: أغلى طموحي كتابة شعر يشبهني وجهي قوافيه بحة صوتي الحانه إلى أن يقول: يا صوتي اللي من الأعماق يندهني بعيوني اسمع صداه وقدح صوانه أطلق قيادي وحل من الجسد رهني خل القصيدة بجد تصير إنسانه ولعل من قرأ مقالاته أو ردوده يلحظ اهتمامه الجميل بإعطاء اللغة الفصيحة حقها من التشكل تحت أصابعه دون تشوهات لغوية أو نتوءات إملائية أو نحوية منفرة. كانت قصيدته تمر عبر احتفائه باللغة، فتأتلق بفيوضات هذا الاحتفاء فتقرأ جماليا كما تقرأ على مستوى المضمون. ولقد مرت صحته بمتاعب، لكنه كان يتخطاها بروح قوية لم تألف الشعور بالعجز وملازمة السرير. كان يكتب قصيده على قدر لافت من العافية، بينما كان جسده يتراجع أمام وعكات صحية متتابعة. حاول تعطيل إبر الألم بمرهم الأمل الذي كان لديه منه ما يكفي. كان الأمل محجمه في فصد مسارب اليأس التي كانت تراود منه مدخلا قد يتداعى، لكنه كان شغوفا بالبقاء على الطرف المقابل للعجز واليأس. كان يغمره شعور فياض بنعمة الحياة، وكان يعيش فرح الوعي بتفاصيلها اليومية. كان هذا واضحا في العديد من قصائده، سواء عن نفسه أم عن غيره، عن همومه أم عن هموم الناس، الناس البسطاء خاصة. ولو تأملنا ما لو افترضنا أن يدرج ضمن هموم ما (تخصه وحده دون غيره) لما وجدنا فرقا يسمح بالقول إن بينه وبين الآخرين تمييزا يرفع همومه فوق همومهم، أو يضعها في درجة أعلى من هموم سواه من سائر الناس. ارقص على طار الجروح واترك عطر دمي يفوح ولم يكن لديه شك في جمال أن يعيش يومه على مسلمة أن الحياة منحة إلهية عظيمة، ويكفيها عظمة أنها لم تكن يوما عطية من مخلوق ولن تكون لحظة من اللحظات هدية من سوى الخالق، ولذلك فهي «أعجوبة» كما يعبر فيليب روث، ويتحتم على الإنسان أن يتشبث بها بأقوى ما يستطيع من معنى إنساني وأعمقه، وإن عانى ما عانى من أوهان صحية وخذلان جسدي: مثل بيت بلا درايش مثل كف بلا خواتم أو أساور أو غوايش تنقضي لحظات عمري كلها واقول عايش هذا على أساس أن النقص ملازم للإنسان لا يفتر عنه مهما تظاهر بكمال لم ولن يحدث. ولذلك فإن من يتفوق على هذا النقص، مجرد افتراض، ويقبض على مفتاح أعجوبة أكبر، فإن مجرد مروقه من هذه الحلقة المحكمة، من هذا النقص الإنساني المكين، يمكنه أن يغير مسار البشرية كلها فضلا عن مساره هو، وقطعا لن يتردد التاريخ في ضمه مع القلة القليلة من العظماء: قالت: عطني أنامل صبا قبل الكفوف اتشيخ قال: حبيبتي والثمن قالت: من اوسع ابوابه ادخلك التاريخ ولذلك كان يحزنه تفريط كثير من الناس في حيواتهم من أجل أشياء تافهة لا تساوي كلها لحظة صغيرة من حياة حقيقية محترمة: يا سخف كلمة ليش لا باع شاعر ذمته من اجل ياكل عيش بيد أنه في حدود ما يتصل بالإنسان وإكراهات الحياة الكثيرة، كأن يفقد إنسان ما آخر خطوط مواجهته أصعب الظروف، يفقد خط الحياة نفسها، هنا يبدو الأمر في تقدير الشاعر محمد النفيعي هو ذات الأمر في تقدير الإنسان محمد النفيعي، حيث لا مناص من رثاء يقطع القلب من فرط ما فيه من حزن وأسف وشعور فادح بالفقد. وعادة ما يقع الإنسان البسيط العاري من الوجهاء والشفعاء وذوي الصوت المسموع في المجتمع، عادة ما يقع هذا الإنسان ضحية لهذا الوضع الصعب، وتكون الخاتمة هي أفول اسمه من قائمة الأحياء، وبطريقة موغلة في الإيلام: في عام اربعميه وعشرين واربع والف للهجره في ليل آخر ربيع اول واول يوم من ثانيه سكت مع قلبه صياح الديوك ولعلعة نجره سكت تهليله/ سعاله/ وتسبيحه/ سكت راديه رحل في صمت متجاهل نهي دكتوره وزجره "يا عم احمد.. يا راقل بص.. بئولك ايه» هنا بيته... هنا دورة مياه ومطبخ وحجره هنا مركازه اللي كان بعد العصر يجلس فيه هنا وقف تحت ظل الشجر «تكسيه» الأجره هناك اربع غنم في حوشه اللي ما قدر يبنيه هنا ياما نصحني «يا ولِدي كلش ترى باجره» هنا ياما قدع دله.. هنا يا ما شرب شاهيه مثل ما هو ولِد ماات وكذا: مقطوع من شجْره لا اب وام لا حتى بني عمه ولا بناخيه بكاه اللي سأل: وين السرا في «مخبز الهجره»؟ و«حلاق الأمانه» والرصيف وعامل البوفيه هناك الكثير الذي يستحق أن يكتب عن الشاعر الصديق محمد النفيعي، ولكن لعل فرصة أفضل من هذه تسنح في قادم الأيام. رحمه الله رحمة واسعة..