في الفكر الفلسفي المعاصر يسود اهتمام مكثف بالأخلاق وحرية الإرادة. ومن أهم الموضوعات التي تشغل بال الفلاسفة اليوم موضوع (المسؤولية). الإنسان عاقل وراشد وحر ولذا فهو (مسؤول) عما يفعل. وقد درج العرف على ألا نحمل المسؤولية لمن لم يبلغوا سن الرشد أو للحيوانات العجماء أو المجانين. فلو قلنا إن زيدا ضرب عمرا فالأول يكون مسؤولا عن فعله إن كان عاقلا راشدا حرا. فما معنى هذه السمات الثلاث (العقل، والرشد، والحرية)؟ وما معنى كون المرء مسؤولا؟ العقل هو الملكة التي يختص بها الإنسان دون سواه وبها يميز بين الأشياء ويعرف الأسماء ويستبين الصواب والخطأ. وأما الرشد فهو قدرة المرء على استخدام العقل بشكل صحيح. فالطفل عاقل؛ بمعنى أن له عقلا.. لكنه ليس راشدا لأن عقله لم ينضج بعد بالخبرة والحكمة والقدرة على التمييز الدقيق بين ملتبس الأمور. والحرية هي الركن الثالث الذي من خلاله يمكن اعتبار المرء مسؤولا. فلو أن زيدا أجبر تحت تهديد السلاح على ضرب عمرو فليس زيد حرا إذن وبالتالي ليس مسؤولا. فالحرية هي النية والفعل اللازم عنها والذي يختاره الإنسان برضاه وبعد تدبر وتعقل. والتدبر مهم دائما.. فالإنسان قد يقع ضحية لمشاعر الغضب العارم فيفعل الفعل دون تدبر، فهو حر ولكنها حرية منقوصة لافتقارها للتدبر وحصول النية. مع ذلك فإن القوانين تجعل الغاضب مسؤولا حتى ولو لم يكن حرا تماما وقت الغضب، كما أنها تجعل السكران مسؤولا حتى ولو لم يك عاقلا وقت السكر، لأسباب ليس هنا المقام لشرحها. إذا اكتملت الشروط الثلاثة يصير المرء مسؤولا عن أي فعل يفعله. ومعنى كونه مسؤولا يعني أنه مؤهل للجزاء الذي يناله جراء الفعل.. فيستحق اللوم أو العقاب على الفعل الشائن والمدح والثواب على الفعل الحسن. القاعدة الأخلاقية تقول، إذن، : المرء مادام عاقلا راشدا حرا فهو مسؤول عما يفعله. وهذه المسؤولية متعلقة بالأفراد. السؤال الآن: هل هناك (مسؤولية جماعية)؟. كثيرون يرفضون هذا النوع من المسؤولية لأنه ليس من الحكمة أن نلوم (المجتمع الألماني) لما فعله هتلر. فالملام هو هتلر وأعوانه، أما الناس في ذلك الوقت أو حتى يومنا هذا فليسوا مسؤولين عما فعله زعماؤهم. وقل مثل ذلك عن البيض في أمريكا وهل هم مسؤولون اليوم عما فعله أجدادهم بالسود؟ بالطبع سيقول الكثيرون كلا.. فمن الظلم أن يلام الجيل الجديد بما فعله الجيل القديم. لكن هناك من يقول وإن ضمنا بأن الجيل الحالي (البيض في أمريكا) وإن كان غير مسؤول عما فعله الجيل السابق إلا أن اليوم (يتنعم) بما اكتسبه من أجداده (الجيل السابق) وأن الجيل الحالي من السود في وضع مزر بسبب ما حدث في الماضي. لذا ظهر في أمريكا مع جون كيندي ثم مع جونسون قانون يدعى بالتمييز الإيجابي. هذا القانون يعطي شيئا من الأولوية للأقليات والفقراء وخصوصا السود فيما يتعلق بالتعليم والصحة ونحوها. وفي هذا إقرار ضمني بأن الجيل الحالي يتحمل مسؤولية ما فعله الجيل السابق وإن بنحو غير مباشر. لننتقل إلى حالة ثالثة مشابهة؛. أثار الفيلسوف الأمريكي جيمس راتشلز مسألة مهمة تتعلق بمسؤولية البشر عن كل مجاعة تحدث في العالم. يقول إن كل شخص في العالم ممن توفر له شيء من الرغد والحياة الكريمة مسؤول عن كل شخص يموت جوعا في أفريقيا أو آسيا أو غيرها. ويقول مثلا: إذا كنت ستدفع عشرة دولارات من أجل مشاهدة فيلم وأنت تعرف أن هذه الدولارات سوف توفر طعاما لطفل جائع فأنت بتركك التبرع بهذه الدولارات أشبه بمن ترك ذلك الطفل يموت فتكون مسؤولا عن موته. وهذه الحالة دليل على وجود مسؤولية جماعية. والحقيقة أن رأي هذا الفيلسوف السقراطي يستحق الاهتمام والانتشار. ورغم أن المسؤولية التي نتحملها هنا تظل فقط أخلاقية لا قانونية، إلا أن الأمل واسع في أن يتطور الوعي البشري أكثر ليعرف أن حياة طفل من الأطفال أهم من كل الكماليات التي أغرقنا أنفسنا فيها فنسينا البؤساء والمساكين.