يقول ويليام جيمس: "آية الحق النجاح، وآية الباطل الفشل" وهي حكمة تختزل الاعتقاد الراسخ بانتصار الحق ودحر الباطل "قل جاء الحق وزهق الباطل"، فتقصر مدة الوصول لهذه الحقيقة أو تطول بحسب قدرة أهل العقول على اختصار الزمن والجهد المبذولين، وقد يأتي النجاح متأخراً كمعيار نهائي لا تبدلي لانتصار الحق بأدواته الواضحة ودليله القاطع" النجاح"، والنجاح الذي حققه معرض الكتاب كان دليلاً مشرقاً على انتصار الحق بتحكيم العقل الحر الذي يشهد على صدق إيمانياته وردات فعله تجارب وشواهد الواقع المحتكم للتمييز الحر بين الحسن والقبح العقليين، لا الاستسلام لأوهام الخوف المعرفي، وتقييد العقل بخزعبلات التوجس والارتياب العقيم المستند على جرفٍ هارٍ، المنقاد للتبعية والانغلاق والحجب والمنع، فلا حق يرجى مع عقل يغلق الأبواب على قناعاته ويخبئها خوفاً عليها أو منها، بل الحق يفتح أبوابه ويعلن قناعاته الواثقة بأفق الفضاء على رؤوس الأشهاد. خير ختام للحديث عن الكتاب قول الفيلسوف العربي الكندي «العقل حر بسيط مدرك للأشياء بحقائقها»، وهاهي الأمور في ميزان العقل الحر تهدي بساطتها وتجري في أعنتها بسلاسة الطبيعة، فتضع حقائق معرض الكتاب بين أيدينا وأمام أنظارنا، لنشهد بفشل وهم الارتياب، وانتصار حق النجاح عندما نقول الواقع يشهد على النجاح؛ فواقع معرض الكتاب بأجوائه العبقة برحيق المعرفة المنتشر في أكثر من 504 دور نشر مزدانة بصنوف الفكر والثقافة والمعرفة، وبرنامجه الثقافي الشامل لكل أطياف المجتمع رجاله ونسائه وأطفاله، والراحة النفسية المصاحبة للمتنقلين بين ردهات دوره وأجواء محاضراته لهي دلائل حق وإضاءة برهان لكل الزائرين في أيامه المتحفة بالجمال، أنا هنا لا أكتب قناعات شخصية ولا شهادات ملفقة بل أنقل شواهد واقع تناقش في النور وتنشر في العلن، وتباشر التماشي مع إرهاصات تحولية عقلية وذهنية عامة التوصيف وواسعة المدى. ورغم العنوان الأفقي"من الأفق" الذي حمله شعار المعرض "القراءة.. حياة" وما تضمنه من فلسفة عميقة الدلالة تعكس الصلة بين الحياة والقراءة، وامتداد الرغبة المعرفية الصاخبة والمندفعة للعلم والمعرفة بامتداد الحياة، وهو ما يهيم به أهل العقول وتخبره همة أولي الألباب ويترقب خيراته السنوية أهل الحكمة، إلا أن المحتالين والنصابين أرادوا بث الشبهات وشغل العقل بوهم الارتياب وحبس الرؤية في سواد ظنون التخلف، وفرض القيود على العقل الفردي الحر في اختياره، ومحاولة قسر الأفراد على التصرف والحركة في حدود إطار العقل الجمعي وذهنية السياق الذي ينزع عن المرء حريته، ويحرمه توظيف قدرته التأملية والفكرية على القراءة والنقد ومعرفة جوانب الإيجاب والسلب التي يتميز بها كل عاقل رشيد، لكن كل محاولاتهم باءت بالفشل، فالإقبال على معرض الكتاب العالمي في الرياض لهذا العام فاق كل التوقعات المتفائلة وتعدى كل رغبات المأمول، والأرقام تشير إلى مليوني زائر والمبيعات جاوزت الأربعين مليون ريال، وهو وإن لم يثبت بالضرورة كمؤشر عكسي نسبة القراءة الفعلية إلا أنه دليل واضح لإقبال الناس على حقهم في حرية الاطلاع والاختيار والانتقاء بين معروضات معرفية شتى وعناوين ثقافية كثر، ولأن الذين ساقوا أوهامهم السوداء للقبض على العقول اتخذوا موقفاً غاية في البدائية والوصائية فقد نادوا بالمقاطعة في زمن العولمة والفضاء الرقمي، إلا أن دعوتهم تحولت لدعاية مجانية زادت عدد زوار المعرض بدل أن تحقق التبعية العقلية التواكلية، وأثبتت أن الإنسان نزع عنه رداء المحكومية العقلية وانساق لحريته بسجية الطبيعة كإنسان حر، يقول كيركيغار: "محكوم على الإنسان أن يكون حراً"، وهذا الحكم هو حقيقة وجود جعلت الجميع يمارسون التجربة بأنفسهم - رغم محاولات أقطاب الوصاية الحثيث للحجب والتقييد - فما وجدوا إلا فضلاً وعلماً أسقط كل أوهام الإرجاف وأبطل ظنون الارتياب، فقولبة المجتمع والسيطرة على الجو العام كانت حيلة الزمن الغابر ولن تفلح موازين الاتجاه الخلفي ولا حيل أصحابه. تركزت الأوهام التي حاول المرتابون نشرها في دعايتهم الحثيثة للمقاطعة ورغبتهم الحجر على العقول في وهمين أساسيين، وبهما يختزل الموقف وتصور أبعاده بدوافع الارتياب والظنون ذي القناعات المشوهة والكاذبة، أحدهما: الخوف على العقل بمنع الكتب، وكأن العقل طفل لا يعي رشده إلا أن يحرس حدوده المرتابون في قناعاتهم، والخوف الآخر: هو الخوف المتكرر في كل اتصال طبيعي في الحياة، وهو وهم الخوف من الاختلاط والتمسح بفضيلة منعه، وهو في حقيقة أصله؛ خوف دائم من حضور المرأة ووجود المرأة ووعي المرأة وفكر المرأة. الوهم الأول ؛منع الكتب هو محاولة للسيطرة على العقول بتحجيرها وتحجيم خياراتها، كي يتسنى القبض عليها وبالتالي توجيهها لصالح المنتفعين، بدعوى الخوف على الإيمان، مع أنه ليس أعظم من سبر إيمان المرء إلا بتحدي قناعاته اليقينية، وهذا التحدي لايأتي بقراءة مماثلة القناعات بل قراءة ما يعارضها، وذلك ليتبين رسوخ الحق من هشاشته، وليس في المنع دلالة إيمان بل خوف وابتعاد عن امتحان اليقين بسبب هشاشة الإيمان به، إن ثقافة المنع تعدٍ على حق حرية الآخرين، فعقل المرء ملك له وليس لأحد حق امتلاكه إلا لمن أهداه تملّكاً أو أجّره تربّحاً، ولقد كان رد وزير الثقافة والإعلام على المنادين بالمقاطعة رداً حراً يتقاطع مع صانعي الأغلال،" من أراد المقاطعة فليقاطع، هذه التظاهرة الثقافية للجميع". أما وهم الخوف من الاختلاط، فهي حكاية لم يعد يتربح بها إلاالسذج، لكنها لازالت قيد المتاح لتداول العته الذي لا يتحرك في الحس الطبيعي له أي مبرر، فالعقل لا يرى جديداً في الاختلاط المزعوم سوى أنه حس الطبيعة المألوف جبلّة وطبعاً، فالرجل والمرأة يتقابلان في كل مكان عام وتبقى الأخلاق الفاضلة عنوان تحدٍ لراسخ جذور التربية، أما مخترق الأخلاق فلا رادع له إلا القانون والقانون فقط، وكل مؤشرات الحس تشير إلى أن طبيعة الاختلاط تفرض الإنسانية قبولها والانقياد لسلاستها، فليس لمنحرف في أجواء الالتقاء الطبيعي بين الرجل والمرأة من شك إلا في تربيته لا في أجواء طبيعة الحياة الجامعة في ظل أجواء المنع والحجب يستحيل قياس فضل العقل وفضيلة الأخلاق، وكلما تأنسنت العلاقة بين الرجل والمرأة تداركنا وعينا بذواتنا ومسؤولية أخلاقنا، وفي مسيرة الخير أمنّا طرقنا، وهذه اللقاءات والتظاهرات لها دور حقيقي في إعادة أجواء الأنسنة المفقودة ودورها الحقيقي في الوعي والوجود، كتب الحبيب زين العابدين الجفري في تغريدة له في تويتر"أينما كمنت الأخلاق الراقية كمن الدين، وأينما كمنت الأخلاق الراقية كمن العلم"، وهي مقولة أخلاقية عالية الهمة، فالعلم والدين الحقيقيان أصل تحققهما وصدقيتهما هو الأخلاق الفاضلة، وصاحب الأخلاق الراقية يسبر رقي أخلاقه بالتواصل لا بالحجب، وبالتعامل لا الانغلاق، كما أن الدين والعلم يُسعى لهما بالاتصال وبذل أسباب التواصل، لكن الرافضون لشمس الحق هم الذين ذكرهم فولتيير "إن الذين يجعلونك تعتقد بما يخالف العقل قادرون على جعلك ترتكب الفظائع"، ومن الفظائع أن نصدق بأننا لا نتحكم في معطيات تربيتنا الأخلاقية، بل تقودنا للشر عزائم غرائزنا؟! وعلى طريق امتداد الحكمة التي يؤمن بها الإنسان في امتداده شرقا وغرباً يقول سارتر:" الإنسان مشروع وجود يحيا ذاتياً، ولا يكون إلا بحسب ما ينويه وما يشرع بفعله، وبهذا الفعل الحر الذي يختار به ذاته، يخلق ماهيته بنفسه"، هذا المعبر تماماً نجد له ماثلاً شاخصاً في قوله تعالى" كل نفس بما كسبت رهينة" أي مرهونة ومسؤولة، إنها الحكمة تجري على لسان الفلاسفة، وجذورها ربانية المصدر. وإذا ما قرأنا اليوم عبارة أن كل منشور ممنوع مقروء، ومعنى منشور اليوم تجاوز الورق إلى الفضاء بشيخه الممتد عبر الزمان والمكان" جوجل" أدركنا أن الحجب أصبح نكتة يتندر بها العامة قبل العقلاء. إن من يمنع كتابا لا يحترم أدنى الحقوق وعلى رأسها الحق في الحصول على المعلومة والمعرفة، وهذا ما أكدته شرعة حقوق الإنسان والمواثيق الدولية. أود أن أجزل الشكر لوكيل وزارة الثقافة والإعلام للشؤون الثقافية والمشرف العام على معرض الكتاب الدكتور ناصر الحجيلان لرئاسته البرنامج الثقافي المصاحب لمعرض الكتاب وإشرافه على المحاضرات والندوات والأمسيات، وأضافته جناحاً خاصاً لعرض مؤلفات المؤلفين السعوديين مجاناً، لدعم وتشجيع وحفظ حقوق المؤلفين السعوديين الجدد الذين نشروا كتبهم دون ناشر، وافتتاحه بوابة التأليف الإليكتروني المخصصة للمؤلفين الجدد الذين لم يجدوا دور نشر تتبنى نشر أعمالهم، وهي بوابة تستقبل جميع المؤلفات، وخطوة تتعاطى مع توجه إدارة المعرض للكتاب الإلكتروني، ولحرصه الكبير على إبراز المعرض بما يليق بالوطن، وبالمرحلة التاريخية، وقبل وبعد ذلك بما يليق بالعقل الذي يطمح للاتصال بآفاق المعرفة وانطلاق الرأي الحر، فله الشكر موصولاً بالدعاء بمزيد التقدم والارتقاء. وختاماً: فالحديث عن الكتاب ومعرضه وأنشطته يهدينا حكم الفلاسفة، وخير ختام للحديث عن الكتاب قول الفيلسوف العربي الكندي "العقل حر بسيط مدرك للأشياء بحقائقها"، وهاهي الأمور في ميزان العقل الحر تهدي بساطتها وتجري في أعنتها بسلاسة الطبيعة، فتضع حقائق معرض الكتاب بين أيدينا وأمام أنظارنا، لنشهد بفشل وهم الارتياب، وانتصار حق النجاح.