بعد أن دخل الشاب في عقده الثاني واستعاد شيئا من عافية ذاكرته التي أعطبها الدواء، بدأ يرشح من مخازن قصصهم بعض الذي يسجل في الغرائب، فقد حدثته عمته كيف جعلوه ذات مرة يمسك بحبل بين شجرتين، وهكذا توقف عن البكاء يومها فتركوه معلقا ليرتاحوا من صوت بكائه كما قالوا، وقد اعتبروا ذلك يومها اكتشافا لم يسبقهم إليه أحد، ولكنهم لما انتهوا من سرد القصة لم يعد الشاب يتصورهم، فماتت المرأة التي حدثته في ذاكرته، كان هذا عندما كانت طالبة في دار المعلمين، وقد سجلت في سجلها أيضا أنها عندما أصبحت مديرة كيف جعلت خمس طالبات من طالباتها ينظفن مراحيض المدرسة عقوبة لهن، فلقد ارتضوا فيه تنفيذ عقوبة كتلك أهون من أن يعلم أهاليهم بغيابهم عن المدرسة ساعة، فقد بدأ الشاب يسجل مروياتهم التي يتذكرونها عن طفولته بلسانهم، تلك التي كانت كلها من وجهة نظرهم فتوحا وسبقا واكتشافات، فيما لم يتذكر من طفولته هو إلا لحظات العقوبة والزجر والرفض، وما كان يتذكر لحظات غيرها، فقطعة الحلوى التي ناولته إياها خالته لم تترك أثرا كبيرا في نفسه، ولكن العلامة الزرقاء التي تركتها العصا يوما على رجله اليمنى ظلت طويلا معتمة دائما تذكره بتلك اللحظة. قال الرجل: في التسعة الأولى لم أقرر كيف أمشط شعري أو كيف أقلم أظافري، لم يؤلمني الخضوع للتشكل، فقد تشكلت على هواهم وفقا لموروثاتهم. فقد جئت أسمر اللون، ولو أنني كنت أرغب في أن أكون أكثر سمرة بعد، أو أن أكون ذا لون آخر تماما. سقط رأسي في المكان ذاته الذي يسقط فيه الجسد، فانتقلت من عالم حار لعالمٍ بارد جدا، وقد تصلب جسدي بسبب هذا الانتقال المفاجئ، ويبدو أنه لم يتصلب جسدي فقط، ولكن تصلبت روحي أيضا وزارتني الحصبة كما يروي أهلي التي لم يعرف الأطباء يومها، أني استضفتها لعامين متتالين، إلا متأخرين. ففي السبعة الأولى أيضا وتعد كل واحدة منها اثني عشر مثيلا للتسعة الأولى لم أكن كغيري من أقراني، فلا هوائي كهوائهم، ولا شرابي كشرابهم. جربوا في الثلاثة الأولى منها كل أنواع الشراب على جسدي في كل منفذ منه، مرات ومرات.. ففي الأذن جرت وديان، وفي الأنف والعين والفم والوريد، وأخيرا.. حين لم يصلوا لغايتهم لجؤوا إلى الرسوم فلم يبق في جعبتهم سواه، فرسموا على جسدي شتى الرسوم، وقد كان عزائي يومها أني حين ألمسها أو أكشف عنها أراها كما لو أنها كانت مرسومة بحديدة فنان بارع في الرسم على الأجساد، واستعملوا الحمض المركز ذات مرة برغبة طبيب شعبي، فجاءت الدائرة التي خلفها الحمض كما لو أن من رسمها مهندس معماري بالبيكار، لم تخرج الروح وقتها من جسدي، لكنها خرجت من القلب أو من الكبد أو من الرئتين مثلا واستقرت أخيرا في نقي العظام، فقد سكنت الغضاريف تربط العظام بالعظام، وبعدما ظنوا أن آخر الطب أفلح لم يفلح الكي ولم يؤتِ الثمار فأفلس الأصحاب والجوار، وقرروا وقالوا: يجب أن ينام ذلك النوم الذي يجاور الموت، ذلك النوم الذي نقرر نحن فيه وقت الطعام ووقت الشراب، وله أن يقرر باقي الأوقات. أخبروه بعد عشرين عاما أنه ظل نائما ذات مرة لثلاثة أيام متتالية، كانوا خلالها يختبرونه إن ما زال حيا بوضع منديل رقيق شفاف على أنفه فإذا اهتز المنديل اطمأنوا أنه ما زال حيا يرزق، فمن منوم إلى منوم أقوى كلما أعلن منوم سابق عجزه عن تنويم الفتى فكانوا يزيدون جرعة المنوم. نهل من ماء المنومات ما يكفي لتنويم تسعة بجيله لمدة عام، ولما نهل من آخر منوم نام كما لو أنه نام إلى الأبد، وظنوا أنه لن يجرب منوما آخر، ولكنه وقتها فقط نهض وودع المرض بعد عامين وودع المنوم، ولا بد أنه ودع أشياء أخرى غيرها سيعرفونها فيما بعد لم يقرر هو توديعها، ولكن من قرر أن يسكت بكاءه بالمنوم قرر أن يقطع عنه المنوم عندما تعافى. لم يعطب المنوم شيئا من ذكائه، نعم ولكنه عطب شيئا آخر عطب فيه أشياء لم يستطع أن يفصل فيها قال بعدها، وعندما بدأت الكلام لم أحب من الكلام إلا لا، ولم أحفظ إلا إشارات الرفض، ولم يعجبني إلا القائم من الكلام، وقد عذبني الرفض والتحدي وأجهدني كل مساء ذلك العناد الذي تربى في داخلي ولم أمل من العناد كان يخنقني حينا، ولكنه لم يمح من ذاكرتي ما حدثوني عنه، فلقد عطب المنوم مني ذاكرتي أيام الطفولة ما يجب أن أتذكره وما يجب ألا أتذكره، فلما حدثوني من نوادره يوما عوضوا علي ما خطفه الدواء كله لا جزؤه، ولكنهم لم يسلموا من اللوم حينا، ومن العتب حينا، ومن السخط والكراهية أحيانا كثيرة، وفي باقي العد من العمر تبدل الحظ، فما كان حظي كمثلي حظي في الطفولة، فما رغبت أمرا مفصليا إلا ساقه الله لي يسيرا، ولقد مررت بحظي من خرم الإبرة مرات ومرات، ولقد تخيلت ورغبت أمرا ولم أدفع بمعرفة أو بمال أو ذي سلطة لأحصل عليه كانت تتعذب الناس وتدفع بكل قوتها فيه، وقد لا يحصل فقد حصلت عليه ليس فقط عليه، ولكني كنت مميزا فيه، وهو نفس الأمر الذي رغبت أمي من الله أن لا يمنحني إياه حتى يخف عنادي معها وعنفي وجلافتي، ولا أشك في أمومتها وحبها، ولكني أعلم علم اليقين أنها تتمنى ألا أعاندها ولو كلف هذا كثيرا.